وجهات نظر

المشترك الثقافي

ربما كان أكثر تعريفات المجتمع شيوعًا، في الفكر السسيولوجي المعاصر، هو ذاك الذي يقضي بأنّ "المجتمع ائتلاف مصالح". يفيد هذا القول، في ظاهره، وجود التعدّد والاختلاف في المصالح مثلما يعني، متى أمعنا فيه الفكر والنظر، رغبة الإرادات المختلفة التي تعكسها المصالح المتعدّدة في الالتقاء في صعيد واحد - يتم الاتفاق عليه - والانتساب إلى مجموع كبير يضمّها والتكتّل في جماعات شتى متعددة المشارب والأهواء توحّد بينها رغبة الانتساب إلى كيان واحد يجمع بينها.

المشترك الثقافي

علامة التوافق على الاجتماع في صعيد واحد أو في رقعة واحدة معلومة هي ما يقصده روسو بالحديث، في كتاب "التعاقد الاجتماعي"، بـ"الإرادة العامة". والإرادة العامة أو الرغبة في العيش المشترك (مع وجود الاختلاف والإقرار به) هي، في نهاية التحليل، المعنى المراد من الحرية في الفكر الفلسفي الحديث. يصحّ القول، في عبارة أخرى، إنّ وجود المشترك، في الاجتماع البشري، بين المصالح والنزعات والإرادات المختلفة هو ما يجعل قيام المجتمع، في الصورة التي هو عليها اليوم، أمرًا ممكنًا وقابلًا للتحقق. عند هذا المشترك العام، عامة، ووجوده وتجلياته في وعينا العربي المعاصر، خاصة، نودّ القيام بوقفة قصيرة.

من نافلة القول إنّ التسليم بواقع الاختلاف والتعدّد في الأهواء والرغبات، وكذا تباين المصالح بين الجماعات يفيد التسليم بجملة أمور أصبحت تُعتبر، مع تشكّل شروط الاجتماع البشري في الأزمنة الحديثة ومنذ ميلاد الفكر الحديث، من الأوليات البسيطة والحقائق الأولية التي لم يعد للاختلاف حولها معنى. أوّلها الحقّ في المغايرة والاختلاف، وثانيها اعتبار الإنسان (بحسبانه عقلًا حرًا وإرادة غير مقيّدة) سلطة مرجعية عليا واعية لذاتها، إليها وحدها ترجع سلطة التقدير والتشريع، وثالثها التمييز في الشؤون البشرية بين ما كان يتعلّق بمحيط العام والمشترك وما كان يرجع إلى دائرة الخاص والفردي.

هل يكفي في تحقّق الكيان الواحد المشترك أن يقرّ المواطنون بوجود السلطة العليا والقانون؟

ومن الطبيعي أن يكون أوّل ما يرد إلى الذهن، حين الحديث عن "العام المشترك"، هو جملة الأمور التي تتّصل بالتنظيم المادي وشرائطه (في مستويات الاقتصاد والسياسة وتدبير مسائل الشأن العام). يصحّ القول، في عبارة روسو، إنها "الإرادة العامة" التي تجعل من "المواطنين" أفرادًا ينتسبون إلى الدولة الواحدة وإلى الكيان الواحد المشترك، بموجب ما تقرّره تلك الإرادة العامة. الحقّ أننا، متى أمعنا النظر، نتبيّن أنّ الأمر أعمق من ذلك.

هل يكفي، في تحقّق الكيان الواحد المشترك، أن يقرّ المواطنون بوجود السلطة العليا ووجود القانون الذي يُشكّل المرجع والأساس في تحقّق تلك السلطة العليا - وبالتالي الدولة الواحدة ذات السيادة - حتى يغدو ذلك الكيان متحققًا وجوديًا وليس قانونيًا أو سياسيًا فحسب؟.

العروبة هي المشترك العام والمشترك الثقافي

دعنا نتساءل: ما الأمر الذي يحرّك في النفوس شعورًا جماعيًا بالفرح ويحمل على الفخر بإحراز مواطن في دولة معلومة على تقدير أو نصر دولي؟ لمَ كانت القلوب تخفق بكيفية جماعية عند سماع النشيد الوطني للبلد الذي يكون الانتماء إليه؟ هل يرجع الأمر في ذلك إلى التوافر على مقعد في المنتديات الدولية، ويرجع إلى المظاهر التي تجعل من البلد تمثيلًا للرفعة والقوة؟ ولعلّي أقرب الفهم إلى الأذهان بالقول: لا شكّ أنّ أمر المواطنة والرباط الذي يضمّ أبناء المجموعة السياسية الواحدة يرجع إلى التوافر على جواز سفر يحمل اسم الدولة، غير أنّ الأمر لا يقف عند ذلك.

الحقّ أنّ المشترك العام، داخل المجموعة الواحدة، لا يتّصل بأمور السياسة والاقتصاد ولا يتعلّق بارتفاع ذكر أمّة أو خمول ذكرها، بقدر ما يرجع إلى الجذر والمصدر العميق. وما هو كذلك هو الثقافي وما يتّصل به فهو سابق لذلك كلّه وهو يعلو على ذلك كلّه. العروبة هي المشترك العام بين العرب جميعًا، والمشترك الثقافي هو ما يجعل الانتماء إلى العروبة حالًا طبيعيًا لا زيف فيه ولا اصطناع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن