في القمّة الأخيرة، حدث تطور بالغ الأهمية وهو الموافقة على ضم ٦ دول، من بينها ٥ دول تقع في منطقتنا، والمغزى الاستراتيجي من هذا التطوّر يكمن أولًا: في الرسالة الصريحة التي تبعث بها الصين الزعيم الحقيقي أو الأول لـ"بريكس" لواشنطن من أنّ الشرق الأوسط أصبح في درجة متقدّمة من سلّم أولوياتها العالمية، وأنها مصمّمة على عدم التراجع عن أيّ موقع مؤثّر حصلت عليه في الإقليم.
ويكمن ثانيًا: في طبيعة الدول التي تمّ قبولها، إذ يمثّل أربعة منها على الأقل دولًا "مفتاحية" تتحكّم أو تلعب الدور الرئيس في إقليمها المباشر وتمتلك مزايا (جيو –استراتيجية) ذات طابع مستمر في التاريخ، ومن ثمّ فإنّ إضافتها ولو ببطء شديد وعلى نار هادئة جدًا هي خصم صريح من خانة نفوذ الغرب المطلق على المنطقة، وإضافة صريحة لخانة نفوذ الصين ومعها روسيا حليفتها الاستراتيجية.
أفصح العملاق الصيني والدبّ الروسي صراحةً في القمّة عن الهوية الجيوسياسية لـ"بريكس"
هذه الدول في أفريقيا هي أولًا مصر الدولة الأكبر في شمال القارة سكانًا واقتصادًا وحداثة تولّدت من ريادتها لنهضة التنوير العربية منذ قرنين ونيف، والدولة العربية الأفريقية الوحيدة الممتدة في آسيا عبر سيناء وتمتلك في فترات عديدة تأثيرًا تقليديًا على منطقة المشرق العربي وشرق المتوسط.
والثانية هي إثيوبيا الدولة الأهمّ في شرق أفريقيا المتحكّمة في منابع النيل وصاحبة النفوذ التقليدي على جوارها المباشر في إريتريا وجيبوتي والصومال الواقعة على البحر الأحمر وخليج عدن، وإذا وضع في الاعتبار أنّ أهمّ دولة في أفريقيا الجنوبية وهي جنوب أفريقيا موجودة بالفعل في "بريكس" وأنّ الدولة الأكبر في غرب أفريقيا وهي نيجيريا تقدّمت بطلب للعضوية قد يُقبل في وقت لاحق، فإنّ هذا التجمّع سيمسك بأركان القارة الأربع، أضف إليهم أيضًا نفوذ (موسكو- بكين) المتزايد في منطقة الساحل في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى. وهي قارة لها خصوصية سياسية إذ إنها لسوء حظها ظلّت منطقة نفوذ تام للغرب ينفرد لوحده بثرواتها الهائلة من المواد الخام دون أن يُشرك طرفًا دوليًا آخر، وحتى دون أن يشرك معه الأفارقة أنفسهم أصحاب هذه الثروات.
في آسيا تمّ ضمّ إيران والسعودية أكبر قوّتين، نفطًا وسكانًا ونفوذًا، في غرب آسيا والخليج بضفّتيه الفارسية والعربية، وإذا كانت إيران جغرافيًا وثقافيًا تتجاوز قيمتها الاستراتيجية الخليج فتصل تأثيراتها إلى أحد أهمّ مناطق الأمن القومي الصيني وهي منطقة آسيا، فإنّ السعودية لها دور بالغ الأهمية في شبه الجزيرة والبحر الأحمر ودور معنوي في العالم الإسلامي السنّي لا يقلّ عن دور دول مثل مصر وتركيا.
لكن هذا الاختيار للدول المفتاحية يؤكد آراء من قالوا من البداية إنّ "بريكس" مثلها منظمة شنغهاي في التصوّر الذهني لكلّ من بكين وموسكو هي تجمعات جيوسياسية بامتياز.
بعبارة أدقّ، أفصح العملاق الصيني والدبّ الروسي صراحةً في القمة ١٥ عن الهوية الجيوسياسية لـ"بريكس" من انتقاء هذه الدول المفتاحية من بين ٤٠ دولة تقدّمت للعضوية، فكلّ من مصر وإيران وإثيوبيا تواجه حاليًا مصاعب اقتصادية جمّة لأسباب مختلفة، فيما كانت توجد دول أخرى متقدّمة للعضوية في أوضاع اقتصادية أفضل بكثير لكنها لم تُقبل.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لم يدَع أيّ مجال للشك في تقدّم الدوافع السياسية لـ"بريكس" على أيّ دوافع اقتصادية، فقال: "الاعتبارات الأهمّ التي اعتُمدت في قبول عضوية دولة من الدول المرشّحة كانت هيبتها ووزنها السياسي وبطبيعة الحال، موقفها على الساحة الدولية، أي من الدول التي تحمل الأفكار المشتركة، تلك التي تؤيّد تعدّدية الأقطاب، وضرورة جعل العلاقات الدولية أكثر ديمقراطية وعدالة، وزيادة الدور العالمي للجنوب".
ضمّ الرياض وطهران إلى تجمّع واحد يقلّل حتمًا من فرص انقلابهما عن عملية التطبيع التي ترعاها بكين
● ورغم أنّ هذا المعيار السياسي ينطبق أيضًا على قبول الأرجنتين، وهي المثقلة بأكبر دين خارجي وأعلى نسبة تضخّم في العالم، لكن المدلولات السياسية في اختيار الدول الشرق أوسطية أكثر فصاحةً وبلاغةً في التعبير عن نفسها، خاصة إذا وضعت في إطار العودة الأمريكية الشرسة للمنطقة أو الهجمة المرتدة الكبيرة التي تهدف إلى حصار النفوذ الصيني الذي تمدّد بعد توسّط بكين في اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وطهران.
● هذه الهجمة المرتدة كانت واشنطن تسعى منها إلى إعادة التوتّر بين إيران من ناحية والسعودية والعالم العربي من ناحية أخرى، وتسعى لوضع إسرائيل والعرب في تحالف أمني في مواجهة إيران عبر ما عُرف بمقترح التطبيع السعودي - الاسرائيلي مقابل ثلاث ضمانات أمريكية للرياض ببناء قدرات نووية وتقديم أسلحة متقدّمة وتعهّد بحماية المملكة في أي صراع عسكري.
● أما لماذا نعتبر أنّ المدلول السياسي والجيواستراتيجي في ضمّ الأعضاء الخمسة الشرق أوسطيين أكبر؟ لأنه ببساطة جاء دليلًا على نقلة بارعة من المخطّط السياسي الصيني على رقعة الشطرنج الدولية استطاعت إفساد هدف النقلة الأمريكية السابقة، فضمّ الرياض وطهران إلى تجمّع واحد يقلّل حتمًا من فرص انقلابهما عن عملية التطبيع بين قطبي الخليج التي ترعاها بكين، ويزيد من قدرة الأخيرة على التأثير الإيجابي بما يمنعها من التراجع أو الإنهيار.
● ودعمت الصين هذا التحرّك بنقلة شطرنج بارعة إضافية وهي تقدّمها بعرض أكثر جاذبية لبناء المفاعل النووي للسعودية لا يتضمّن أية شروط سياسية، بينما تطلب واشنطن من بلد الحرمين الشريفين ثمنًا سياسيًا فادحًا لهكذا تعاون نووي وهو التطبيع الفوري والشامل مع إسرائيل قبل أن تنشأ الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا يعني أن تتنازل السعودية عن هيبتها أمام عالم إسلامي تعهّدت أمامه دومًا بحماية المسجد الأقصى، بأن تتخلى بنفسها عن مبادرة السلام العربية التي صنعتها يداها.
● نتيجة هذا التطوّر ونقلات الشطرنج الصينية على الرقعة الدولية أنّ بكين نجحت، ولو إلى حين، في صدّ الهجمة المرتدة الأمريكية ولم تخسر مواقعها الجديدة في المنطقة، بل احتفظت وعزّزت وزادت من تحصين هذه المواقع.
● بذكاء شديد تمكّنت الصين أيضًا في هذه القمّة من دمج أهداف "بريكس" مع أهداف منظمة شنغهاي في سياق تلعب فيه دورًا كبيرًا في قيادته وضبط إيقاعه متجاوزةً الإطار الاقتصادي الضيّق الذي يوضع لـ"بريكس" عادةً، فانضمام مصر والسعودية والإمارات وإيران التي تتفق لأسباب مختلفة على ضرورة محاربة الإرهاب القاعدي والداعشي والنصراوي والزرقاوي.. إلخ، يبني جبهة عريضة جيوسياسية، تمتدّ من أفريقيا إلى آسيا وتلامس أوراسيا، ذات نطاق أوسع وخبرات متراكمة من العدد المحدود لدول منظمة شنغهاي، والتي يعلم الجميع أنّ أحد أهم أسباب تأسيسها هو توفير مقاومة جماعية لنشاط الجماعات المتطرّفة في وسط آسيا والقوقاز ومنع استغلال الولايات المتحدة والناتو الخلافات العرقية والحدودية والدينية والطائفية العديدة في هذه المنطقة التي تشمل عددًا لا بأس به من دول الاتحاد السوفيتي السابق بما يحول دون أن تصبح تهديدًا مباشرًا للحدود وللأمن القومي الصيني وكذلك الروسي.
نموّ تدريجيّ لجبهة عريضة ناقمة على الإستغلال الرأسمالي الغربي لثروات الدول النامية
● وتزيد قمة "بريكس" الأخيرة من عمق وتجذّر تطوّر استراتيجي آخر كانت قد عبّرت عنه جزئيًا القمة الروسية / الأفريقية التي عُقدت في سان بطرسبرج الشهر الماضي، ألا وهو تزايد أعداد الدول الأفريقية التي تميل إلى المحور الاستراتيجي الروسي / الصيني الرامي لبناء نظام دولي متعدّد الأقطاب، كما يرتفع منسوب غضبهم ولهجة التحدي للغرب في خطابهم السياسي.
● وبصورة لا تخطئها عين، كشفت قمة "بريكس" عن أننا نشهد نموًا تدريجيًا لجبهة عريضة من دول الجنوب ناقمة على الإستغلال الرأسمالي الغربي لثرواتها وثروات الدول النامية، وناقمة على احتكار الغرب صنع القرار في المؤسسات المالية والسياسية الدولية وتهميش الجنوب. وعلى الرغم من أننا لا نشهد تجربة مواجهة صريحة مماثلة لمواجهة حركة عدم الانحياز أثناء الحرب الباردة، فإنه من اللافت للنظر أنّ أفريقيا ربما تعود من جديد لتلعب دور رأس الحربة في مواجهة الغرب ورفع صوت الجنوب كما فعلت في خمسينات وستينات القرن الماضي.
● انضمام ثلاثة من أهمّ دول النفط في العالم (السعودية والإمارات وإيران) إلى "بريكس" التي توجد فيها أيضًا روسيا كعملاق نفط وغاز، تطوّر قدرة الصين وإلى حد ما الهند كأكبر مستهلكين عالميين للنفط ليس فقط على توفير الثقة في تأمين إمدادات طاقة مستقرّة لعملية التنمية السريعة عندهما، ولكن أيضًا للعب دور مع زملائهم النفطيين بـ"بريكس" في تحديد سياسات الطاقة العالمية، أي في مزاحمة وربما انتزاع جزء من الصولجان الذي تحكّمت واشنطن به على الدوام، وربما يبدأ ذلك تدريجيًا مع عوامل أخرى في إزاحة جزء من جبل هيمنة الدولار على العالم.
(خاص "عروبة 22")