ماذا يعوق التنمية المستقلة والتكاملية في الوطن العربي؟

التنمية المُعتمِدة على الذّات بصورةٍ أساسية، أي التنمية المستقلّة، هي تلك التي تعمل على تطوير وتنويع هيكل الاقتصاد ومعالجة اختلالاته ورفع كفاءة تخصيص الموارد فيه، وتحقيق العدالة في توزيع ثمار التنمية وتقليص الفوارق بين الطبقات والفئات الداخلية لبناء سلامٍ اجتماعيّ قائمٍ على العدل والتراضي وليس القمع، مع تبادل الاعتماد والاندماج العادل والمُتوازن والمُتكافئ في الاقتصاد الدولي.

ماذا يعوق التنمية المستقلة والتكاملية في الوطن العربي؟

هناك العديد من المعوّقات والتحدّيات التي تواجه التنمية "المستقلّة" والتكامل الاقتصادي العربي. ويمكن تركيزها وتحديد آليات مواجهتها باختصارٍ على النحو التالي:

رسوخ التبعيّة ومقاومة دعوات التغيير والإصلاح والاستقلال

تتمترس النّخب الحاكمة والدولة العميقة في الغالبيّة الساحقة من الدول العربية للدّفاع عن سياساتها الاقتصادية الرّاهنة، حيث تُعتبر التبعيّة للرّأسمالية العالميّة، بوّابة الحماية والأمان من عدوانية القوى الرّأسمالية الغربية الكبرى!.

توجّه الأموال العربية للتنمية الاقتصادية على قاعدة تبادُل المنافع يمكن أن يُغيّـر المصير الاقتصادي للدول العربية

كما تَعتبر النّظم الحاكمة وغالبيّتها استبدادية، طرح بدائل لسياساتها، عملًا مُعارضًا وحتّى عدائيًا، وليس سعيًا عِلميًا ووطنيًا من أجل الإصلاح الحقيقي للاقتصاد الذي يستهدف إزالة اختلالاته الداخلية، وتحقيق التوازن في العلاقات الخارجية، والتعجيل بالتقدّم العِلمي والتّقني وتحسين إنتاجيّة العمل ورأس المال ومستويات المعيشة.

مساعي الهيمنة والاستحواذ الأميركية

تُشكّل المساعي الأميركية للهيمنة على الإقليم العربي ولاستنزاف فوائض الدول العربية المُصدّرة للنفط وتوجيهها إلى الاقتصاد الأميركي، تحدّيًا حقيقيًا للتكامل الاقتصادي العربي، فتلك الأموال لو توجّهت للتنمية الاقتصادية في المنطقة العربية على قاعدة تبادُل المنافع، يمكن أن تُغيّر المصير الاقتصادي للدول العربية في الأجل المتوسِّط على أقصى تقدير. كما تُشكّل مساعيها لإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية الإقليمية في الوطن العربي عبر إدماج الكيان الصهيوني فيه من خلال تطبيع علاقاته مع الدول العربية، وتحويل مسارات طرق النّقل ليصبح هو النّقطة المركزية فيها، عامل تحدٍّ وتهديدٍ لأي مشروع للتكامل الاقتصادي العربي.

وأفصحت الولايات المتحدة عن مشروع طريق النقل البحري - البرّي من الهند وجنوب آسيا مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن وصولًا إلى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ومنه إلى أوروبا والولايات المتحدة، وهو مشروع عدائي لدور قناة السويس ومصر في النقل الإقليمي والعالمي. لكنّه على الرَّغم من موافقة الإمارات لن يكتمل من دون موافقة السعودية التي تُصرّ على رفض التطبيع إلّا بعد إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ في الضفّة وغزّة وعاصمتها شرق القدس.

ضعف الإدراك للذّات ولتغيّرات البيئة الاقتصادية الدولية

بلغ الناتج المحلي الإجمالي العربي المحسوب بالدولار، وفقًا لتعادل القوى الشرائية، نحو 8,8 تريليونات دولار تُشكّل نحو 4,5% من الإجمالي العالمي عام 2024، وتضع الوطن العربي في المرتبة الرابعة بعد الصين والولايات المتحدة والهند.

ويُشكّل ضعف وتفاوت الإدراك العربي لهذه القوة الاقتصادية العربية ولطبيعة التغيّرات في البيئة الاقتصادية الدولية، عامل تحدٍّ وتهديدٍ لأي مشروعٍ للتكامل الاقتصادي العربي، لأنّ إدراك طبيعة الوسط التاريخي الذي نتعامل معه لتعظيم المكاسب منه وتقليل الخسائر أو التكاليف، هو أمرٌ حيويّ لأي مشروع للتكامل الاقتصادي العربي والاندماج في الاقتصاد الدولي على أسسٍ عادلةٍ ومتكافئة. وينبغي إدراك تآكل جانبٍ من المكانة الاقتصادية والقدرة التنافسية للغرب، وانتقال مركز الثقل الاقتصادي العالمي إلى الصين وشرق وجنوب شرق وجنوب آسيا.

زيادة الإنفاق على البحث والتطوير العِلميَيْن وربط مراكز الأبحاث بقطاعات الإنتاج ضرورة للاقتصاد والمجتمعات العربية

على سبيل المثال، تُشير بيانات "صندوق النقد الدولي" إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي المحسوب بالدولار، وفقًا لتعادل القوى الشرائية عام 2024، قد بلغ 38,2 تريليون دولار في الصين (19,5% من الإجمالي العالمي)، ونحو 29,2 تريليون دولار في الولايات المتحدة (14,9% من الإجمالي العالمي)، ونحو 117,9 تريليون دولار في الدول النّامية والنّاهضة بما فيها الصين (60,1% من الإجمالي العالمي)، ونحو 78,2 تريليون دولار في الدول الرّأسمالية المتقدّمة بما فيها الولايات المتحدة (39,9% من الإجمالي العالمي). وعلى الدول العربية أن تصيغ علاقاتها الاقتصادية الدولية بشكلٍٍ جماعيّ أو توافقي، وهي تُدرك أنّ الهيمنة الأميركية على صناعة القرار المالي والاقتصادي الدولي، وكذلك وضعيّة الدولار كعملة احتياط دولية تشكّل آليةً أميركيةً لنهب العالم، لن تدوم طويلًا، لأنّها قائمة على حقائق قديمةٍ ولا تتّسق مع حقائق الواقع الاقتصادي العالمي الرّاهن.

الميل لاحتكار هيكل القوّة والتخلف العلمي وانتشار الفساد

يُشكّل المَيْل لاحتكار هيكل القوّة في الإقليم العربي تحدّيًا مُعرقلًا لتطوّر العلاقات الاقتصادية العربية ومُعوّقًا لتعميق التكامل الحقيقي بين البلدان العربية، على الرَّغم من أنّ المنطقة العربية تُشكّل فضاءً اقتصاديًا رحبًا يمكنه أن يكون مسرحًا مفتوحًا وحرًّا لرؤوس الأموال والمُنظمين ولقوّة العمل العربية، بما يُشكّل أساسًا موضوعيًا وصلبًا لتحقيق نهوضٍ اقتصاديّ عربيّ جماعيّ ولبناء قوةٍ اقتصاديةٍ عربيةٍ جبّارة.

ولو توفّرت الإرادة السياسية للوصول إلى سوقٍ عربيةٍ موحّدةٍ حقيقيّةٍ، عبر إنهاء كلّ المعوّقات التي تعترض التحرير الكامل لحركة عناصر الإنتاج من رأسمال وعمل وتنظيم، والتي تعترض التحرير الشامل لحركة التجارة في السّلع والخِدمات، وعبر توحيد الرسوم الجمركية والتخطيط التأشيري المشترك لتعزيز عوامل التكامل بين الاقتصادات العربية... لو حدث هذا، فإنّ الوطن العربي سيصبح عملاقًا اقتصاديًا حقيقيّا.

انتشار الفساد أحد التحدّيات الرئيسية للتنمية المستقلّة والتكاملية ولا بدّ من تحقيق الاستقلالية لأجهزة مكافحته

كما يُشكّل التخلّف العِلمي والتّقني، تهديدًا وجوديًّا للبلدان العربية في مُناخٍ دوليّ يتّسم بتصاعد الأنماط العدائية في إدارة العلاقات الدولية سياسيًا واقتصاديًا، وفي ظلّ وجود كيانٍ صهيونيّ غاصبٍ ومجرمٍ وخارجٍ على القوانين والأعراف الدولية. لذا، فإنّ زيادة الإنفاق العام على البحث والتطوير العِلميَيْن، وربط مراكز الأبحاث العِلمية بقطاعات الإنتاج المدنية والعسكرية وتنسيق الجهود العِلمية العربية، هو ضرورة حياة للاقتصاد والمجتمعات العربية. كما أنّ تحسين ظروف العمل والأجور للنّخبة العِلمية لإبقائها في البلدان العربية وإيقاف نزيف العقول العربية للخارج، يُعدّ عنصرًا حاسمًا للتقدّم والتطوّر والنهوض العربي.

أمّا انتشار الفساد في التصرّفات في المال العام وفي الإدارات العامة في الدول العربية، فهو أحد التحدّيات الرئيسية للتنمية المستقلّة والتكاملية، بخاصة عندما يقوم الفاسدون بإخراج أموالهم إلى الخارج هربًا من أي مساءلة قانونية، بما يُخرج الثروات الوطنية من معادلة التنمية الاقتصادية الوطنية التكاملية.

وفي مواجهة هذا الفساد، لا بدّ من تخفيف وميكنة إجراءات تأسيس الأعمال والتخارج منها، ولا بدّ من تحقيق الاستقلالية الكاملة لأجهزة مكافحة الفساد في إطار نظامٍ ديموقراطي حقيقي قائم على المساواة والشفافية واحترام القانون.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن