تقدير موقف

سوريا والجوار العربي: تفاصيل في "برود خفيّ"!

لعلّه من باب تأكيد المُؤكّد القول إنّ ثمّة برودًا خفيًّا في علاقات دمشق مع عواصم دول الجوار العربي القريب، وهي الأردن والعراق ولبنان، والتي تشكّل بوابة تواصلٍ وعبورٍ سوريّ مُتبادلٍ مع البلدان العربية ولا سيما في المَشرق، إضافةً لأهمّيتها بصفتها نافذة سوريا إلى العمق الاستراتيجي. وقد أعادت تأكيده سنوات الحرب في سوريا وعليها، وكانت سببًا وراء تدخّلات عربية، ساهمت في إسقاط الأسد وحلول النظام الحالي مكانه.

سوريا والجوار العربي: تفاصيل في

احتلّ الأردن الموقع الأهمّ في دول الجوار في السنوات الاخيرة، نتيجة ما تعرّض له من تأثيرات سياسة وممارسات نظام الأسد البائد على الأردن وعبره على بلدان الخليج العربي، والتي شارك فيها حلفاء الأسد الإيرانيون وميليشياتهم في سوريا والعراق ولبنان. وشملت تهريب المخدّرات وبخاصة حبوب الكبتاغون عبر الحدود، وتمرير الأسلحة والأشخاص للقيام بأعمالٍ مسلّحةٍ في الأردن أو التسلّل عبره إلى الجوار.

لا شكّ أن زوال نظام الأسد، فتح بوّابة علاقاتٍ أفضل بين سوريا والأردن، خصوصًا لجهة تقارب سياستهما المشتركة في مناهضة وجود إيران بأدواتها وسياساتها في سوريا والمشرق العربي على نحوٍ عام.

علاقات سوريا والعراق ولبنان هي المثال الأوضح على البرود الخفيّ

غير أنّ التوافق السابق، لا يكسر حدّ البرود في علاقات البلدَيْن بسبب استمرار المشاكل بينهما، وبعضها قديم يتّصل بالتقاسم العادل لمياه "نهر اليرموك" في وقتٍ يُعاني فيه البَلَدان من شحّ المياه، وبعضها موروث عن علاقة الأردن بسوريا أيام نظام الأسد البائد، أبرزها مشكلة اللّاجئين السوريين في الأردن. والأخطر منها استمرار تدفّق تهريب الكبتاغون والأسلحة، على الرَّغم من تراجع أرقامها وحجمها في الأشهر الستة، التي مرّت على سقوط نظام الأسد.

أمّا علاقات سوريا وكلّ من العراق ولبنان، فهي المثال الأوضح على البرود الخفيّ. إذ كان يُفترض ان تكون علاقات العراق ولبنان مع سوريا ما بعد الأسد أفضل، بخاصة أنّ العهد السوري الجديد أعلن منذ وصوله إلى السلطة قبل ستة أشهر، أنّه يتطلّع إلى علاقاتٍ أفضل مع دول العالم وخصوصًا دول الجوار. أي أنّه سوف يمتنع عن تدخّلاته التقليدية والعميقة في البلدين كما درجت العادة، وهو أمر كان من الصعب تصديقه، وبخاصة من جانب اللبنانيين في تجربتهم الأليمة معه الممتدّة أكثر من خمسين عامًا.

لقاءات عمل بين إيران وميليشيات عراقية وفلول نظام الأسد لتنفيذ مخطّطات إثارة الفوض في سوريا 

إنّ أسباب برود العلاقات السورية مع العراق، تعود في جانبٍ أساسيّ منها إلى اختلافٍ مذهبيّ وسياسيّ بينهما غذّته التدخّلات الإيرانية، التي فرضت سيطرتها المباشرة وعبر جماعات تتبعها على العراق، وكانت بصدد تمكين جماعاتٍ مماثلةٍ في مسار سيطرتها على سوريا. لكنّ إسقاط نظام الاسد، ومجيء النظام الحالي المُعادي لإيران كَسَرَ ذلك المسار، وكرّس تناقضًا مذهبيًا وسياسيًا بين السلطتَيْن الحاكمتَيْن في دمشق وبغداد. وزاد إلى ما سبق، سعي إيران لجعل العراق ميدانًا للقاءات عملٍ بين إيران وميليشيات عراقية وفلول نظام الأسد لتنفيذ مخطّطات إثارة الفوضى، والعمل على تقويض السلطة الجديدة في دمشق. يُضاف إليه ما صار معروفًا عن استخدام إيران العراق ممرًّا لتعزيز علاقاتها مع الإدارة الذّاتية في شمال شرق سوريا، التي ما زالت تتهرّب من تنفيذ اتفاق الاندماج الكامل مع حكومة العهد الجديد.

كشفت أحداث الساحل السوري عن دور لفلول نظام الأسد في لبنان وعبره بهدف تصعيد صراع الساحل

وباستثناء النّقاط التي تُسبّب برودًا في علاقات بغداد - دمشق، فإنّ ملفَّي اللاجئين السوريين في العراق، والمقيمين من العمال السوريين في العراق، يزيدان الأجواء بين البلدَين ضبابًا وتردّيًا، بسبب ما يحيط بهما من سياساتٍ وقراراتٍ تُتّخذ في بغداد وفي أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، والتي تُضيف صعوباتٍ إلى حياة السوريين ووجودهم في العراق.

إنّ سرديّات نظام الأسد و"حزب الله" وأنصاره في لبنان باقية حول المعارضة السورية وجماعاتها السياسية والمُسلّحة بصفتها "تكفيرية" و"جزءًا من المؤامرة الدولية"، وما زال لها مروّجون وأنصار في لبنان ووسط بنيته السياسية الحاكمة، بخاصة في ضوء تولّي "هيئة تحرير الشام" السلطة في دمشق. وكلّها تُساهم في أسباب برود علاقات البلدين، مضافًا إليها تأخّر معالجة ملف اللاجئين السوريين في لبنان الذي عزّز ادّعاءات لبنانية ببقاء اللاجئين هناك، بخلاف تأكيداتٍ سوريةٍ عن حرص دمشق على عودة السوريين إلى بلدهم وبيوتهم، حالما تُساعد الظروف على استعادتهم. وأضيف ملف فرار البعض من بقايا نظام الأسد إلى لبنان، وأغلب هؤلاء لهم علاقات وارتباطات عميقة ومصلحيّة مع قادةٍ ونافذين لبنانيين. وكشفت أحداث الساحل السوري في آذار الماضي عن دورٍ لعبه فلول نظام الأسد في لبنان وعبره بهدف تصعيد صراع الساحل لأخذ سوريا نحو الفوضى، وإنْ أمكن لما هو أبعد في الانقلاب على النظام الجديد.

معالجة برود علاقات سوريا مع جوارها العربي تترك أثرها الإيجابي في المحيطَين الإقليمي والدولي

خلاصة القول في علاقات سوريا مع جوارها العربي، وخصوصًَا القريب، إنّها تعاني من برود، تتراوح أسبابه ما بين مخلّفات العهد البائد، وتدنّي مستوى الحراك الديبلوماسي والسياسي السوري في معالجة المستجدّات. في وقتٍ يبدو علاج برودة العلاقات مع دول الجوار ضرورة، وقد أصبحت ضرورتها مضاعفةً بعد إلغاء العقوبات الأميركية والأوروبية على سوريا، وسط تأكيداتٍ عربيةٍ وبخاصة من الدول الخليجية للعمل على إنهاض الوضع السوري والمساعدة على إعادة إعمار البلاد وتطبيع حياة السوريين.

كما تؤكّد الخلاصة أنّ معالجة برود علاقات سوريا مع جوارها العربي، تتعدّى مصلحة سوريا والسوريين كما يبدو، وتتجاوزها بحيث تترك أثرها الإيجابي في دولٍ كثيرةٍ، تبدأ من الجوار القريب، وتذهب الى أبعد في المحيطَيْن الإقليمي والدولي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن