ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مدن أمريكية حركات احتجاجية عنيفة، تنتهي عادة بقليل من القبضة الأمنية، وكثير من التفاهمات والتنازلات، عبر حوار بين السلطات المحلية والمتظاهرين، لكن ما حدث ويحدث في لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو، ومسارعة البيت الأبيض إلى الرهان على القبضة الأمنية والعسكرية، يجعل من المشهد أقرب إلى تمرد أو حرب أهلية.
شرارة التوتر بدأت إثر عمليات دهم تنفذها سلطات الهجرة، واعتقال عشرات الأشخاص، تقول الإدارة الأمريكية إنهم مهاجرون غير نظاميين، أو ينتمون إلى عصابات. وقد أثار هذا الاتهام حفيظة الملايين من سكان الولايات الجنوبية المنحدرين من أصول لاتينية، أغلبهم من المكسيكيين. وكانت لوس أنجلوس المدينة الأكثر استقطاباً للمتخوفين من الترحيل، وفق تهديدات الرئيس دونالد ترامب مع فوزه في انتخابات نوفمبر الماضي.
وطوال الفترة الماضية، بعد تسلمه منصبه، جرت مساع عبر القضاء والإعلام، والنقاشات الحزبية والفكرية، للعدول عن استهداف المهاجرين غير النظاميين، باعتبار هذه السياسة يمكن أن تؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وتزيد من مظاهر الفلتان، واستخدام السلاح المنتشر بكثافة في المدن الكبرى، حيث تنشط عصابات خطيرة، يمكن أن تستغل أي اضطراب أمني لتزيد من منسوب العنف.
إقدام ترامب على إرسال وحدات من الحرس الوطني، ونشر قوات من مشاة البحرية في لوس أنجلوس، أثار جدلاً لم ينته، وزاد من تمدد الاحتجاجات التي تتعدد محركاتها في واقع يموج بالتناقضات والخلافات الظاهرة والعلنية. وقد استخدم ترامب سلطاته الفيدرالية، وصّور الوضع في المدينة المختلطة سكانياً بأنها ستحترق إذا لم يتدخل، وقد فعل ذلك رغماً عن أنف حاكم ولاية كاليفورنيا الديمقراطي غافين نيوسوم الذي اعتبر خطوة الرئيس تنسجم مع "الخيال المضطرب لرئيس ديكتاتوي"، كما رفع دعوى إلى القضاء، وانضم إليه تضامناً 22 من حكام الولايات الديمقراطيين.
ويبدو أن هذا التصعيد النادر وغير المسبوق بين رئيس البيت الأبيض وحاكم ولاية، يؤشر إلى انقسام يتعمق ويدخل مرحلة التراشق بالصلاحيات وأجهزة الدولة، وهو مرشح إلى التطور، في ضوء رغبة ترامب في اعتقال نيوسوم، الذي يعتزم الترشح إلى انتخابات 2028 عن الحزب الديمقراطي، والذي سيكون على الأرجح في مواجهة نائب الرئيس الحالي جاي دي فانس.
المنتقدون لترامب يؤكدون أنه رجل بارع في صناعة أعدائه والتفريط في حلفائه، وآخرهم إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم. ورغم أن التجارب السابقة تشير إلى أن السلطات الفيدرالية دائماً ما تسيطر على الأوضاع، مهما بلغت شدتها، فإن التحذيرات الكثيرة التي يتداولها الإعلام الأمريكي، وظهرت بوضوح خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، لا يمكن التهوين من جديتها ووجاهتها، إذ لا يمكن لأي متابع إنكار أن الولايات المتحدة تعيش أزمة عميقة متعددة الوجوه، وتمر بمرحلة تحول صعبة، وهناك من يغالي ويسرح في الخيال، زاعماً أن هذه الدولة العظمى قد تواجه التفكك مثلما حدث للاتحاد السوفييتي في العصر الحديث، وامبراطوريات أخرى في القرون الماضية.
وفي علوم المستقبل، ليس هناك شيء غير قابل للوقوع، أو فرضية لا يمكن أن تتحقق. وبالنسبة إلى الأزمة الجارية في الولايات المتحدة، لا يمكن التقليل من خطورتها على مستقبل هذا البلد، خصوصاً عندما تقترن النوازع الذاتية بالنرجسية العمياء، وتتخلى الخصومات السياسية عن الضوابط، وتفتعل المعارك عند كل منعطف.
(الخليج الإماراتية)