تعددت الجبهات التي يقاتل عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. بعد أوكرانيا وغزة وإيران والرسوم الجمركية، انفجر في وجهه الخلاف مع قطب التكنولوجيا إيلون ماسك، ومن ثم جاءته حروب الترحيل. ثمة مؤشرات إلى أن الضغط الداخلي بدأ، إلى حد ما، يدفع بترامب إلى تقديم تنازلات في السياسة الخارجية. ومن هذه المؤشرات اعترافه بدور إيراني في المفاوضات الجارية لترتيب اتفاق بين إسرائيل و"حماس" لوقف النار في غزة مقابل إطلاق الأسرى الذين تحتجزهم الحركة.
كلام ترامب جاء بعد محادثته الهاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإثنين. وهذا يعني بوضوح أن المفاوضات الأميركية - الإيرانية غير المباشرة التي ستعقد جولتها السادسة، الخميس أو الأحد، لا تتناول البرنامج النووي الإيراني حصراً، وبدأت تتطرق إلى السبل الكفيلة بخفض التصعيد في الشرق الأوسط عموماً.
ولماذا لا ينسحب ذلك أيضاً في مرحلة لاحقة على لبنان، مع الحديث عن تكليف السفير الأميركي لدى تركيا توم باراك بالملف اللبناني خلفاً لمورغان أورتاغوس؟ وباراك مكلف أيضاً بالملف السوري، ليتقاسم بذلك مع المبعوث الخاص ستيف ويتكوف، المكلف بملفي غزة وإيران، مهام العمل على فكفكة أزمات المنطقة. أما وزير الخارجية ماركو روبيو، فيركز اهتمامه أكثر على أميركا اللاتينية، ربطاً بترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى هناك، وبالتصدي لتنامي النفوذ الصيني في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
في نهاية الأسبوع الماضي، برز مؤشر آخر إلى أن ترامب، المنكب أكثر فأكثر على هموم الداخل، تساوره فكرة أن يضطلع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدور في إقناع إيران بإبداء المرونة إزاء عقدة تخصيب اليورانيوم. وكان هذا محور المحادثة الهاتفية بين الرجلين الأسبوع الماضي. وأعقب ذلك، كلام للسفير الإيراني لدى موسكو كاظم جلالي عن اعتزام سيد الكرملين زيارة طهران قريباً. وتجد إيران في روسيا، الحليف الاستراتيجي، عامل توازن في مقابل الضغوط الشديدة التي تتعرض لها من الولايات المتحدة. هذا يفترض أن روسيا قد تشكل في نهاية المطاف المخرج لعقبة التخصيب، فتنقذ ترامب وأيضاً... إيران.
الفكرة الأساس تتلخص في السؤال الآتي: إلى أي مدى يضغط المشهد الداخلي الأميركي، الذي ينكشف عن انقسام في المعسكر الجمهوري، وعن "حرب شوارع" في لوس أنجليس، على السياسة الخارجية لترامب؟ قد يكون ترامب الآن، في حاجة أيضاً إلى تهدئة، ولو موقتة، في غزة. وهناك عامل إسرائيلي طارئ قد يساعده هذه المرة. هذا العامل يستند إلى تهديد الأحزاب الدينية بفرط الائتلاف الحكومي، على خلفية قرار تجنيد شبان الحريديم في الجيش، الذي يعاني نقصاً كبيراً في العديد.
ربما يدفع ذلك نتنياهو إلى القبول بتهدئة على غرار تهدئتي كانون الثاني/يناير الماضي وتشرين الثاني/نوفمبر 2023، فيحصل بموجبها على عشرة أسرى أحياء، ومن ثم يعاود الحرب. جل ما يريده ترامب من نتنياهو القبول بترك مسألة وضع حد نهائي للحرب للمفاوضات التي سيتولاها ويتكوف والوسيطان المصري والقطري. والدخول الإيراني على خط المفاوضات قد يساعد أكثر في إقناع "حماس" على التحلي بمرونة أكبر.
ثم أن نتنياهو قد يرى من مصلحته امتصاص أي ثقل للجهود التي ترعاها السعودية وفرنسا، لعقد مؤتمر دولي في نيويورك بعد أيام، يرمي إلى إحياء حل الدولتين مجدداً. وهكذا تصير تهدئة غزة مصلحة لترامب كما هي مصلحة لنتنياهو. البحث عن اختراق في السياسة الخارجية، بات أكثر إلحاحاً بالنسبة لترامب. وهذا ما يفسر أيضاً الاتفاق مع الصين على إجراء محادثات في لندن لخفض التصعيد في الحرب التجارية، الناجمة عن الزيادات الفلكية في الرسوم الجمركية.
وحتى الهدوء الذي اتسم به اللقاء مع المستشار الألماني الجديد فردريتش ميرتس الأسبوع الماضي في المكتب البيضوي، عائد إلى اعتقاد ترامب بضرورة خفض التصعيد مع أوروبا أيضاً، كي لا ينهار كل شيء من حوله دفعة واحدة.
(النهار اللبنانية)