في ضوء الحرب الإسرائيلية المستعرة على غزة، تركزت أغلب الجهود الدولية على محاولة إنهاء هذه الحرب، من دون الالتفات الجدي لمعالجة صلب المشكلة، وهي الاحتلال الإسرائيلي. ورغم أن زوال الاحتلال أمر بديهي لمعالجة ما يجري من قتل وتدمير من قبل آلة الاحتلال الإسرائيلية، فإن الجهود الحالية لتسليط الضوء على النتائج الوخيمة لاحتلال دام ثمانية وخمسين عاما لا تزال غير كافية لبلورة تحرك دولي يضغط على إسرائيل للانسحاب من أراض احتلتها بالقوة في مخالفة واضحة للقانون الدولي.
لقد أصبح واضحا للجميع أن الهدف المعلن للحرب من قبل إسرائيل، وهو القضاء على حماس، لم يعد مقنعا لأحد، بما في ذلك الغالبية العظمى من حكومات المجتمع الدولي. إن اي تخزين للأسلحة من قبل حماس لا يمكن أن يحافظ على قوته وعدته بعد ما يقرب من سنتين من الحرب، وإن ما تقوم به إسرائيل يهدف بشكل مباشر إلى قتل أكبر عدد من المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم لحملهم على الهجرة.
وحين يخرج المستشار الألماني الذي ترددت دولته أكثر من اي دولة أوروبية أخرى في انتقاد إسرائيل عبر تاريخها بسبب إرث الهولوكوست، ليقول إنه لم يعد قادرا على تبرير استمرار إسرائيل في حربها على غزة، ندرك مدى التحول الذي يجري في مواقف دول عديدة، كانت ترفض إدانة إسرائيل لوقت قريب، وما المواقف الأخيرة لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، التي باتت تقترب من مواقف أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفانيا وغيرها، إلا أمثلة على مثل هذا التحول.
لقد احسنت الخطة العربية لإعادة إعمار غزة، حين لم تكتف بتقديم خطة مفصلة لهذا الأعمار، لكن ركزت أيضا على ضرورة إيجاد أفق سياسي لحل القضية الفلسطينية، وأعادت التأكيد على المبادرة العربية للسلام، لكن هذا الجزء من الخطة لم يحظ بأي اهتمام يذكر، لا من قبل إسرائيل، التي لا ترى في غير التهجير حلا للقضية، ولا من قبل الولايات المتحدة، التي لبعض مسؤوليها موقف أيديولوجي ديني متطرف يؤمن بإعطاء كل فلسطين لإسرائيل، أو من قبل الرئيس الأمريكي، الذي ليس له موقف أيديولوجي من القضية، ولكنه لا يعتبر حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أولوية، بل جل ما يسعى إليه هو وقف الحرب في غزة، لتوفير مناخ مناسب لأولوياته الاقتصادية مع المنطقة.
في ضوء هذه الأجواء، تعقد فرنسا بالتعاون مع المملكة العربية السعودية مؤتمراً في نيويورك، لإعادة التأكيد على إيجاد حل سياسي للقضية مبني على حل الدولتين. وفي حين كان الاعتقاد الأولي بأن فرنسا وبريطانيا ودول أخرى ستعلن في المؤتمر اعترافها بالدولة الفلسطينية، يبدو أن هذا الهدف قد تراجع مؤخرا ليكتفي بمحاولة الاتفاق على خطوات تؤدي في المستقبل لمثل هذا الاعتراف. بمعنى آخر، ومن دون الانتقاص من أهمية المؤتمر، يستمر التغني بحل الدولتين بديلا عن أية خطة عملية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، الذي يخلق كل يوم حقائق على الأرض تجعل من هذا الحل أمراً مستحيلا.
كما من البديهي القول إن التعنت الأمريكي والإسرائيلي ووقوفهما ضد أي حل مقبول لإنهاء الصراع يقلل إلى حد كبير من أهمية أي مؤتمر دولي يعقد، خاصة إن كانت أهدافه متواضعة كما أشرت. لا يجوز أن تصبح هذه المؤتمرات مجرد إبراء للذمة، من دون أن تساهم فعليا في تقديم حلول يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
إذن، في ضوء هذه الصورة القاتمة، ما الذي يمكن عمله؟ إن أي تقييم موضوعي يقودنا إلى الحقيقة المرة، ألا حل قريبا للقضية الفلسطينية، وأن التعنت الإسرائيلي الممزوج بالتفكك العربي والتردد الأوروبي وعدم الاكتراث الأمريكي لا يبشر بمثل هذا الحل إطلاقا، بل إن الفلسطينيين سيواصلون دفع ثمن باهظ في الفترة المقبلة، من دون أن نشهد تحولا دوليا يؤدي إلى تغيير السياسات الأمريكية والدولية تجاه إسرائيل.
إذا كان هذا التحليل مقنعا، فإن النتيجة الطبيعية له، أن الجهود العربية والدولية الحالية، على نبلها، غير كافية لحل القضية، وأن المقاربة المبنية على دعم حل الدولتين، من دون إقرانه بخطة عملية لتنفيذه، لن يؤدي للجم إسرائيل وإنهاء احتلالها وإقامة الدولة الفلسطينية، لقد استنفدت كل هذه الجهود مراميها. نحتاج اليوم لمقاربة جديدة، وحتى لا أقول تستبدل المقاربة الحالية، فعلى الأقل تعمل معها جنبا إلى جنب، تتمثل بدعم صمود الفلسطينيين على أرضهم دعما ماليا وسياسيا.
إن كانت الدول العربية جادة في إيجاد حل مستدام، فإن المقاربة المبنية على دعم صمود الفلسطينيين على أرضهم من شأنه المساهمة في تعزيز الأغلبية الفلسطينية الموجودة حاليا داخل الأراضي، التي تسيطر عليها إسرائيل، والوقوف ضد محاولات القتل والتهجير، التي تقوم بها إسرائيل، والتي قد تنجح فيها على أن يقتصر الموقف العربي والدولي على الدعم اللفظي.
لا شك أن مثل هذا الدعم المالي بحاجة لإرادة عربية سياسية ليس بالضرورة أن تتوفر، كما تحتاج لإيصال هذا الدعم عبر آليات معينة، سواء كانت الأونروا او المنظمات المدنية أو غيرها. وفي حين ستقاوم إسرائيل أي جهد من هذا القبيل، لكن كل هذه الصعوبات تصغر أمام الاكتفاء بالمقاربة الحالية التي لم تنجح في إيقاف المد الاستيطاني الإسرائيلي العنصري. علينا أن نعترف بأن ليس هناك من حلول قريبة، أو سريعة أو سهلة. يتوجب علينا اليوم التفكير خارج الصندوق وعدم التشبث بمواقف تثبت فشلها كل يوم.
(القدس العربي)