عرف العالم العربي صورًا وأشكالًا مختلفةً من "الاستعراضات الإعلامية"، وعرف أيضًا لقاءات سياسية أُخرجت إعلاميًا بطريقةٍ تهدف إلى توجيه رسائل للداخل والخارج، فشهدنا جولات الرئيس الفرنسي المكّوكية في المنطقة العربية وزياراته الأخيرة إلى رام الله وقبلها ذهابه إلى العريش ومطالبته إسرائيل بوقف إطلاق النار، وهي كلّها لقطات إعلامية مؤثّرة، ولكنّها لم تمتلك أدوات قوّة لفرضها في الواقع، واستمرّت إسرائيل في عدوانها على الرَّغم من اللقطة الإعلامية "الحلوة".
لقد قرأ البعض زيارة ماكرون وكلامه على أنّه يعبّر عن تغيّر في موازين القوى الدولية ودور فرنسي جديد سيغيّر خريطة الشرق الأوسط بفضل التحالف مع مِصر، وهؤلاء تصوّروا أنّ رسائل ماكرون الإعلامية واستعراض طائرات الـ"رافال" هي أساس التحوّل في السياسة الخارجية، ونسوْا أو تناسوْا قراءة موازين القوى العالمية وأدوات القوّة على الأرض.
الاستفادة من نجاح نموذج الصين لن يكون برفع أعلامها وإنما أن نعرف أنّ بناء التجربة الصينية بدأ منذ أكثر من 75 عامًا
هذا المشهد سبق أن تكرّر مع الرئيس نفسه في لبنان منذ أكثر من 4 سنوات للتضامن مع ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وكان أوّل رئيس أجنبي يزور لبنان وتفقّد المنطقة المنكوبة ووعد الناس أمام كاميرات التلفزيون باستعادة حقوقهم وأنّ العدالة ستأخذ مجراها، وأكّد على أنّ لبنان في حاجةٍ إلى "نظام سياسي جديد". هذا الكلام الإعلامي الرائع لم تمتلك فرنسا أي أدوات قوّة لفرضه في الواقع وإحداث أي تغيير في المُعادلات السياسية اللبنانية أو حتّى محاسبة الجُناة على هذه الجريمة واكتفى الرئيس بالرسالة الإعلامية.
المشاهد الفرنسية في مصر ولبنان لم تكن وحدها التي شهدناها في العالم العربي، فكثيرًا ما تحدّث البعض عن ضرورة التحالف مع الصين بديلًا من أميركا، وقدّم رسائل إعلامية تتغنّى بعظمة الصين في برامج تلفزيونية بدلًا من برامج للعمل والإنجاز، ووضَع علم الصين على برج القاهرة بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني. وتحدّث كبار المسؤولين عن تقدّم الصين و"جمالها" من دون أن يقدّموا تصوّرًا عمليًا واحدًا قادرًا على تطبيق أي جانب نجاح من تجربة الصين.
إنّ طريق الاستفادة من نجاح نموذج الصين لن يكون برفع أعلامها في كل الشوارع والساحات، وإنما أن نعرف أنّ بناء التجربة الصينية بدأ منذ أكثر من 75 عامًا وقادها حزب شيوعي عقائدي وثوري ضمّ ملايين البشر، لم يعرف مثله أي بلد عربي وربما أي بلد آخر، ودفع أعضاؤه تضحيات كبرى، لا يمكن استبدالها بلقطةٍ إعلاميةٍ تتصوّر أنها بذلك تستنسخ التجربة الصينية، على طريقة "من يريد أن يفوز في مباراة من دون أن يلعبها".
لم تسفر الزيارات الإيرانية إلى القاهرة عن أي تحوّل في التوجّهات المصرية تجاه إيران
إنّ التغنّي بالصين نكايةً في أميركا وتصوّر أنّ الرسائل الإعلامية ستغيّر من دفّة السياسة الخارجية، وستجعل أميركا تُهرول نحونا لكي تمنعنا من الذهاب إلى أحضان الصين لم ولن يحدث، لأنّها تعلم أنّ كل مقوّمات التقدّم الصيني غير موجودة في بلادنا وأنّ الأمر لا يعدو مجرّد "تهويش إعلامي".
وجاءت أخيرًا زيارة وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي" إلى القاهرة، والتي التقى خلالها كبار المسؤولين وتجوّل في شوارع القاهرة القديمة وتناول الطعام في أحد مطاعمها العريقة مع اثنيْن من وزراء الخارجية المرموقين هما عمرو موسى ونبيل فهمي وآخرين. وتحدّثت وسائل الإعلام عن تقارب مصري - إيراني واعتبره البعض رسالةً إلى أميركا واعتبره البعض الآخر رسالةً إلى الخليج العربي.
وعلى الرَّغم من أنها ليست المرة الأولى التي يزور فيها مسؤول إيراني رفيع القاهرة ومع ذلك لم تسفرْ هذه الزيارات عن أي تحوّلٍ في التوجّهات المِصرية تجاه إيران وظلّت في إطار الرسالة الإعلامية التي لا تستند إلى إرادةٍ حقيقيةٍ لتغيير مسارها ودفع ثمن هذا التغيير.
الرسائل الإعلامية لن تكون بديلًا من أدوات القوة الاقتصادية والسياسية
إنّ الرسائل الإعلامية إذا لم تكن تتعامل مع تحوّلٍ حقيقي على الأرض، قد تُبالغ فيه أو توظّفه أو تعمل من "الحبّة قبّة" كما يحدث في أحيانٍ كثيرة، فإنّه لن يكون لها قيمة تُذكر لأنّ المهم أن يكون هناك مضمون حقيقي يحدث على الأرض، لا أن تصبح الرسالة الإعلامية هي الهدف والمضمون، لأنّها في هذه الحالة لن تؤخذَ بجدّية.
يجب عدم التعامل مع الرسائل الإعلامية على أنّها قادرة على صناعة السياسة الخارجية لأي دولة أو أن تكون بديلًا من أدوات القوة الاقتصادية والسياسية التي تمتلكها. وبعدها، يأتي دور الإعلام ليروّج لها أو يبالِغ فيها أو يقلّل منها أو يكون مهنيًا وموضوعيًا في التعامل معها، ولكنّه في كلّ الأحوال لن يصنعها مهما كانت "شطارته".
(خاص "عروبة 22")