بصمات

لماذا يحنّ الانسان العربي إلى نظرية المؤامرة؟

ربما بسبب شحّ المعلومات او كفاءتها المتدنّية المُتاحة للمواطن العربي، يتوجّه المواطن العربي للبحث عن تفسيراتٍ في الظواهر السياسية التي تحيط به من خلال "نظرية المؤامرة"، ودائمًا ما يبحث عن معلوماتٍ تناسب توجّهاته الفكرية أو "ينبغيات" يرغب في أن يراها محقّقةً ويُصدّقها.

لماذا يحنّ الانسان العربي إلى نظرية المؤامرة؟

عشية زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة الخليج، بدأنا نجد في وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الحديث حول اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية، كما كثر القول في الوقت نفسِه إنّ الولايات المتحدة سوف تخفّض من علاقتها بإسرائيل، بسبب خلافٍ نشأ بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الولايات المتحدة، ومثل هذه الأفكار التي تحمل عددًا كبيرًا من التمنيات ليس لها قاعدة صلبة من الحقائق، كالقول إنّ نشوب الخلاف الهندي - الباكستاني بسبب "أطماع صينية"! أو إنّ هناك خلافًا "مصريًا - خليجيًا"!.

ربّما السبب الرئيسي لدخول الفرد العربي في هذا "الضباب الفكري" هو غياب التثقيف السياسي الصحيح إمّا في وسائل الأعلام، أو المؤسّسات المُتخصّصة، وأيضًا الضبابيّة التي تحيط بالملفات نفسِها والتي تُعْرَضُ في المنطقة على قاعدة الهوى!

بعد تصاعد الفتن ازدهرت ثقافة سياسية تابعة للأفكار القديمة لا تتعامل مع نتائج التحوّلات الكبرى في المنطقة

في الغالب إنّ هذه الملفّات شائكة، كالقضية الفلسطينية، والعلاقة مع إسرائيل، والعلاقات البينية بين إيران ودول المنطقة، ومتطلّبات الوضع في سوريا الجديدة، وسياسات الاستثمار والعلاقات العربية - العربية، معظم هذه الملفات لم تتشكّل لها آلية حقيقيّة وثابتة من أجل التعامل معها، وإيجاد حلول معقولة وثابتة للأسئلة التي تُثيرها، أي لا توجد مؤسّسات موثوقة، يمكن الرّكون إليها لدراسة هذه الملفات والوصول إلى نتائج إيجابية أو تَوافُق حولها.

مع الأسف، إنّ الصراع العربي - العربي ما زال قائمًا بأشكال مختلفة، أكانت ظاهرة أو خفية، ومع الأسف أيضًا، هناك حروب ساخنة تُدار في المنطقة، كما يحصل في السودان الموبوء بالإيديولوجيا، وكذلك في اليمن، وأيضًا صراع الطوائف الذي يطلّ برأسه في سوريا، عدا أوضاع غير مستقرّة في العراق، وفي شمال أفريقيا حيث لا يزال الملف الليبي معلّقًا ومتنافرًا بين مكوّناته، إلى صراعٍ في الجزء الغربي من شمال أفريقيا يكاد المتابع أن يفقد عقله بسبب تفاهة أسبابه، وإن عرف على أي ملفات قام واستمرّ ذلك الصراع!.

حَكَمَ حزب "البعث العربي الاشتراكي" السابق كلًّا من سوريا والعراق لفترات طويلة من الزمن، ولكن هذا "البعث"، على الرَّغم من شعاراته الموحّدة، لم يستطع، بسبب الأطماع الشخصية والثقافة السياسية المُتدنّية، أن يصل حتى إلى حد أدنى من التوافق بين العراق وسوريا، بل تحوّل الأمر إلى شقاق وتدبير مؤامرات في الخفاء من هذا النظام ضدّ النظام الآخر حتى سقط الاثنان. وقد وجدنا اليوم أصواتًا تريد إعادة ذلك الصراع تحت شعارات مختلفة، بل ضاربة في القدم، أي بين "الأمويين والعباسيين"!.

الخروج من زمن الفتنة يحتاج إلى مواكبة متطلّبات العصر وتخفيف السياسة من الملف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي

على الرَّغم من التحوّلات الكبرى التي عصفت بالمنطقة، وبخاصة بعد تصاعد الفتن السياسية والطائفية، ازدهرت ثقافة سياسية تابعة وغير مستقلّة، أي أنّها تابعة للأفكار القديمة، ولا تتعامل مع نتائج التحوّلات الكبرى الحادثة في المنطقة. فقد عانت المنطقة من صراع طائفي جعل من الثقافة، بشكلٍ عام، وبخاصة السياسيّة، تتحوّل إلى ساحة معركةٍ تدور رحاها في الماضي، وتجلب تفسيرات ماضوية لتسبقها إلى الحاضر. من هنا، شتت بعض الأوطان كما حدث في لبنان، وأيضًا في اليمن، وأيضًا في العراق. وعانت هذه المناطق، كما في السودان أيضًا، من تردٍّ في الخدمات، وتراجع في الوعي الوطني، وهجرة قسرية، إمّا داخلية أو خارجية واقتتال.

الدعوة التي يجب أن تناقَش هي عودة الاعتبار إلى العقلانية، والابتعاد عن خطاب الكراهية الذي سمّم هذه المنطقة. فلا تستطيع دولة إقليمية في هذه المنطقة فرض نظرياتها السياسية وطرق حياتها المعيشيّة على الآخرين، مهما تغلّفت شعاراتها بشعاراتٍ مذهبيةٍ أو دينية.

هناك بصيص أمل للخروج من مرحلة الفتنة التي سادت في العقود القليلة الماضية، ففي الساحة العربية وفي الجوار، يبدو أنّ لبنان يتعافى جزئيًا، وأنّ هناك قوى عراقية ترغب أيضًا في السلام والتعايش، وأنّ هناك أيضًا تنمية متقدّمة في دول الخليج.

قليل من تجاربنا العربية التفت إلى أهمية برامج التعليم

الخروج من زمن الفتنة يحتاج أيضًا إلى جهودٍ فكرية، منها تقديم المعلومات الصحيحة وبشفافية كبيرة في الملفات التي تهمّ المواطن العربي في كلّ القضايا المطروحة، وأيضًا إحلال ثقافة عقلانية منفتحة تقوم على احترام التنوّع، وتقبّل الآخر، ومواكبة الفكر الديني لمتطلّبات العصر، لا الإغراق في الشعوذة، وتخفيف السياسة من الملف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

الثقافة السياسية العربية كانت لفترةٍ طويلةٍ من المُهْمَلات، وقد آن الأوان أن يُعاد هذا الملف إلى أصوله وحيويته المطلوبة، حتى يساهم في تنوير الرأي العام، وتخليصه من الشوائب والتحيّزات. إلّا أنّ قليلًا من تجاربنا العربية حتى الآن التفت إلى أهمية برامج التعليم وتخليصها من منشآت الكراهية، فما زال التعليم في عددٍ من بلداننا لا يحمل الأولوية التي يتوجّب عليه أن يحملها، كما أنّ بعض وسائل إعلامنا تبث، بشكل مباشر أو غير مباشر، التحيّزات السياسيّة، وربما حتى الخرافات السياسية إن صحّ التعبير.

إنه زمن "الخروج من نظرية المؤامرة" بكلّ أشكالها وتنوّع مظاهرها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن