المشروع العربي وآفاق المستقبل

جيوسياسة قواعد البيانات

لقد عرف العالم المعاصِر طفرةً نوعيةً وفريدةً في البيانات، بسبب التطوّر التكنولوجي الهائل والترابط المستمرّ بين مكوّنات المجتمع العالمي، من مؤسّساتٍ وشركاتٍ ودولٍ وأفراد. وأصبح التدفّق الكبير والسريع للمعلومات والبيانات، عبر مختلف القنوات، أمرًا مثيرًا للاهتمام، بل إنّه كنزٌ لا يُقدّر بثمن، ومن المعلوم أنّ الدول والشركات الكبرى العالمية، تتنافس على استثمار واستغلال وتوظيف ثروة البيانات التي تتضاعف باستمرار.

جيوسياسة قواعد البيانات

يُلاحظ أنّ ما ينتجه الإنسان من بياناتٍ في يومٍ واحدٍ، يفوق ما تمّ إنتاجه في سنوات عديدة، بل يتوقع "المُنتدى الاقتصادي العالمي" زيادة البيانات بسبب النشاط الاقتصادي، إلى حوالى 40 زيتابايت أي 40 ألف مليار مليار وحدة تخزين للمعلومات. وهذا العدد من البيانات يُعادل تقريبًا خمسة مليارات من حجم مكتبة الكونغرس. وتساهم تكنولوجيا "إنترنت الأشياء" في تفاقم مشكلة تدفّق البيانات، كما أنّ سيارات ذاتيّة القيادة بدورِها، ستفرز كمًّا هائلًا من البيانات.

كما تمّ اكتشاف البنوك لتخزين المال تمّ التفكير في قواعد البيانات من أجل حماية "الكنز القومي" لأيّ دولة

نظرًا للتطوّر السريع والمذهل للبيانات، فقد تمّ الانتقال من وحدة قياس تخزين البيانات من "غيغابايت" إلى وصفها بمصطلحاتها الجديدة، وهي "ترابايت" و"يتابايت" و"إكسابايت" و"زيتابايت" ويُتوقع أن تنموَ بيانات العالم وتصل الى 175 زيتابايت سنة 2025.

إنّ هذا الوضع الجديد والمتفرّد، فتح مجالًا لصناعةٍ جديدةٍ، هي بناء قواعد البيانات (Data Center)، حيث هناك حاجة مُلحّة لتخزين البيانات ومعالجتها؛ فكما تمّ اكتشاف البنوك لتخزين المال والأشياء الثمينة، فقد تمّ التفكير في قواعد البيانات من أجل حماية "الكنز القومي" لأيّ دولة، والذي يتكوّن من مختلف بياناتها الخاصّة وذات الخطورة، والتي إذا تمّ تسريبها، من شأن ذلك تهديد أمنها القومي. كما أنّ قواعد البيانات هي وسيلة تكنولوجية فعّالة لتخزين البيانات المتوفّرة عالميًا واستغلالها. ولهذه الاعتبارات تتنافس الدول والشركات الكبرى على امتلاك تكنولوجيا قواعد البيانات وتطويرها. وهو تنافسٌ جيوسياسي وجيواقتصادي، بإيقاعٍ حادٍّ ومنطق التهافت على "مِنجم الذهب" الذي لا ينتهي.

الصراع الجيوسياسي الدولي على قواعد البيانات والبحث في مجالها، صادر عن قناعةٍ مؤدّاها أنّه مَن يملك المعلومة، فإنّه يملك القوّة، وبالتالي فالصراع حول السرعة والفعّالية والدقّة في امتلاك البيانات وتحليلها ومعالجتها واستشراف المآلات الناتجة عنها، هو أمرٌ خطيرٌ وسيُحدّد مستقبل عددٍ من الدول.

هناك عدّة أنواع من قواعد البيانات، تختلف عن بعضها البعض، وذلك حسب طريقة تخزين البيانات ومعالجتها. وهكذا يتحدّث الخبراء عن قواعد البيانات العلائقيّة، والتي تستخدم لغة "SQL"، ومن ذلك أوراكل "Oracle" و"MySQL" و"Postgre SQL". وهناك قواعد البيانات غير العلائقية والتي تتناسب مع البيانات الضخمة وغير المستهلكة، مثل "Cassandra". وهناك قواعد البيانات كائنيّة التوجّه، وهي تتناسب مع البيانات المعقّدة والعلاقات المتداخلة. وهناك قواعد البيانات السحابيّة "Cloud Databases"، مثل "Google Cloud" و"Amazon RDS".

يُتوقع أن تتجاوز سوق أنظمة إدارة وقواعد البيانات 150 مليار دولار بحلول سنة 2026

وهناك قواعد البيانات المركزية والتي تقوم بتخزين جميع البيانات في مركزٍ واحدٍ، وتتميّز بسهولة الإدارة. وهناك قواعد البيانات الموزّعة بين خوادم عدّة؛ وهي بذلك تُقلّل من خطر ضياع البيانات. وهناك قواعد بيانات الرسوم البيانية، وقواعد البيانات الببليوغرافيّة وقواعد البيانات الشخصيّة والتجاريّة.

وتشير الدراسات إلى أنّ أكبر قواعد البيانات في العالم هي "مركز البيانات العالمي للمُناخ"، ومركز "الحوْسبة العلمية لبحوث الطاقة الوطنية" الموجود في كاليفورنيا، وشركة "AT&T" وهي من أقدم شركات الاتصالات في أميركا، وشركة "غوغل"، وشركة "سبرينت" (Sprint)، وموقع "يوتيوب"، وموقع "أمازون"، و"وكالة الاستخبارات المركزية"، و"مكتبة الكونغرس" ومؤسّسات أخرى.

أمّا الشركات الكبرى التي تستحوذ على صناعة وقواعد البيانات، فهي "أوراكل" و"مايكروسوفت" و"آي.بي.إم" (IBM)، و"غوغل"، كما تُهيمن كلٌ من "مايكروسوفت" و"أوراكل" على السوق التقليدية لقواعد البيانات.

ويُتوقع أن تتجاوز سوق أنظمة إدارة وقواعد البيانات 150 مليار دولار بحلول سنة 2026. ومن المتوقّع أيضًا أن يصل حجم سوق صناعة قواعد البيانات في الصّين إلى حوالى 93 مليار دولار سنة 2028. وهناك تطورٌ سريعٌ لسوق البيانات في الصين، إذ من المنتظر أن يصل الى 500 مليار يوان سنة 2030. وعملت الصين على تسجيل البيانات كأصولٍ في الميزانيّات العموميّة للشركات، وبلغت قيمة البيانات المُسجّلة كأصولٍ لدى الشركات المُدرجة نحو 1.3 مليار يوان حتى 2029.

وتشير الإحصائيات إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية تمتلك 5381 قاعدة بيانات، وتليها ألمانيا بـ521، ثم 514 لبريطانيا، و449 للصين، و330 لكندا، و315 لفرنسا، و307 لأستراليا، و297 لهولندا، و251 لروسيا، و219 لليابان. وتمتلك المكسيك 170 قاعدة بيانات، ثم إيطاليا 168، وذلك حسب إحصائيات 2024.

كما تستهلك مراكز البيانات نحو 55 غيغاوات من الكهرباء، وتستهلك أميركا 50% منها، بينما تستهلك آسيا حوالى 30%، والباقي 20% موزّع بين أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.

وإلى حدود سنة 2024، فإنّ دولة الإمارات العربية المتحدة تمتلك 42% من مراكز البيانات في دول الخليج العربي، حيث يوجد فيها حوالى 30 مركزًا، بينما نجد في السعودية 25 مركزًا، و6 مراكز في سلطنة عُمان، و5 في البحرين، و3 في الكويت، و3 في قطر. ولقد صرّح الرئيس التنفيذي لمؤسّسة "دبي للبيانات والإحصاء"، بأنّ الهدف يروم زيادة الطاقة الاستيعابية لمركز البيانات خمسة أضعاف بحلول 2028.

يتعيّن على البلدان العربية أن تفكّر بشكل جدّي في الاستثمار في تكنولوجيا البيانات

وتسعى دول عربية عدّة إلى تحديث بنيتها التحتيّة وصياغة استراتيجيةٍ رقميةٍ واعدة، وهكذا فإنّ مِصر تعمل على بناء قواعد بيانات، وكذلك المغرب الذي يستقطب استثماراتٍ في هذا المجال من "أوراكل" و"OVH Cloud"، ومن المتوقّع أن ينمو سوق مراكز البيانات في المغرب مع التركيز على الاستدامة واستخدام الطاقات المتجدّدة، مثل الطاقة الشمسية والريحية.

إجمالًا، فإنّنا نعاين وعيًا بأهميّة الاستثمار في مراكز البيانات في الدول العربيّة، التي تمتلك خطةً للنهوض بالاقتصاد الرقمي. ومن المؤكد أنّ السوق العالمية لقواعد البيانات ستنمو بشكلٍ كبيرٍ، مع استمرار الهيمنة الأميركية عليها. ويتعيّن على البلدان العربية أن تفكّر بشكل جدّي في الاستثمار في تكنولوجيا البيانات، وجذب الشركات العالمية الكبرى وتأسيس معاهد ومختبرات علمية في عِلم البيانات وصناعة قواعد البيانات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن