استدعى حديث صوفان عن نشاطات السلم الأهلي في الساحل السوري، فتح الحديث عن فادي صقر أحد أبرز مجرمي نظام الأسد بما تتضمّنه سيرته المعروفة من دورٍ مباشرٍ في قتل مئات السوريين وفق وثائق مُسجّلة بالصوت والصورة.
أساس سلوك اللجنة ورؤيتها في إطلاق العسكريين وفي التعامل مع فادي صقر وأمثاله، حسبما بيّن حسن صوفان، أنّها تعالج بعض المشاكل القائمة، وتسهّل مسار السلم الأهلي، وتعزّز فرص عودة حياة السوريين إلى طبيعتها بعد كلّ معاناتهم.
تكرّرت مطالب السوريين في ضرورة محاسبة مجرمي نظام الأسد على ما ارتكبوه
على الرَّغم من أهمية هذه المبرّرات، فإنّها لم تُقنع المعترضين السوريين سواء الذين حضروا المؤتمر الصحافي أو الذين خرجوا على الإعلام بعده في تصريحاتٍ وكتابات، ومثلُهم المتدخّلون في الموضوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذين تضمّ صفحاتهم ومجموعاتهم عشرات آلاف الناشطين والسياسيين والمثقّفين والصحافيين. وقلّةٌ منهم قابلت ما قامت به لجان السلم الأهلي بالرضا، ودافعت عنها، مستندةً إلى ثقتها بالحكومة وسياسة العهد الجديد.
استعاد المعترضون مطالب السوريين، التي تكرّرت وما زالت في ضرورة محاسبة مجرمي نظام الأسد على ما ارتكبوه وبخاصّة أصحاب الجرائم المعلنة والثابتة، كما في حالة فادي صقر، بل وحالة العسكريين الذين تمّ اعتقالهم والذين كانوا قد تجمّعوا ونظّموا أنفسَهم بعد انهيار النظام، ورفضوا تسوية أوضاعهم أملًا بدعم خارجي، أو رعاية تعطيهم القدرة على مقاومة مسلحة للعهد الجديد. وهذه وحدها جريمة ينبغي أن يقول القضاء قراره فيها، وأن يصدر قراراته في سِيَرِهِم وممارساتهم خلال خدماتهم في الجيش وأجهزة الأمن.
المشاكل الاقتصادية والاجتماعية تَنْسِف فكرة السلم الأهلي
الجانب الثاني في موقف المعترضين، يتعلّق بمفهوم السلم الأهلي الذي تسير عليه وتتبنّاه اللجان وفق ما تمخّضت عنه تجربتها في الأشهر الماضية، والتي أكّدت أنّه مجرّد لقاءات ذات طابع تشاوري - اجتماعي بين اللجان الفرعية او المسؤولين الكبار في اللجان وفعّاليات وشخصيات يُقدّر أنها ذات تأثير في مناطق الالتهاب أو التصدّعات، وحلحلة بعض الصعوبات والمشاكل، والقيام بعلاجاتٍ أمنيةٍ في قضايا الموقوفين والمطلوبين. وهذه كلّها لا تعكس بالفعل معنى السلم الأهلي، لأن فكرة السلم الأهلي بمعناها العميق، والتي تتضمّن نزع فتيل كل ما من شأنه إشاعة الخوف والقلق وعدم الاستقرار، ليس في المشاكل والتحدّيات الأمنية فحسب، بل بما يتّصل بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية النّاجمة عن البطالة والفقر، وانتهاك الحقوق وممارسة التهديدات، وتغوّل الأقوياء على الضعفاء، وكلُّها تَنْسِف فكرة السلم الأهلي من أساسها، وتجعل مكانه القلق والخوف والظلم، وتؤدّي الى تنامي الأحقاد، ونموّ عوامل الصراع والتفجير.
والجانب الثالث في واقع مسار ومُحتوى السلم الأهلي بصيغته المتّبعة، يبدو في عدم الرّبط بين ما قامت به اللجنةُ من خطواتٍ على مسار العدالة الانتقالية الذي يبدو مؤجّلًا، أو موضوعًا على نارٍ هادئة، على الرَّغم من سخونة ملفاته، والأهمّ فيها حصول ملايين السوريين على العدالة عبر استعادة حقوقهم التي انتُهكت، وأولادهم الذين عُذّبوا وقُتلوا، ومعاقبة المُجرمين والقتلة، ومنها حلّ مشكلة المُغيّبين، والاشتغال على عودة اللاجئين من الخارج والنّازحين إلى بيوتهم. كذلك، معالجة القضايا الحسّاسة لضحايا الصراع مثل النساء الأرامل والأطفال المشرّدين، والذين تعرّضوا لظروف انتهاكٍ وإعاقاتٍ صعبةٍ في سنوات الحرب، ولا مُعيل لهم ولا سند، والكثير من القضايا، لا شك أنّ علاجها أو البدء فيه سيوفّر وصولًا أفضل إلى سلمٍ أهليّ حقيقيّ ومُستدام، لأنّه لا يعالج الموضوع من جانبٍ جُزئي ومرحلي، كما يحصل حاليًا، بل يعالجه باعتباره خطأ سياسةٍ هدفها تصفية كل آثار الحرب في كل المجالات والمستويات، أخذًا بعين الاعتبار ما جرى وما يجري حاليًا، وما يمكن أن يكون عليه الحال مستقبلًا بالنسبة لسوريا وكلّ السوريين.
وسط التداخلات بين فكرة ومسار السلم الأهلي الجاري الاشتغال عليه، وما يمكن أن يكون عليه مضمونه ومساره الحقيقي، مسافة بعيدة، يبرز الأمر الجوهري في ملاحظات المُعترضين الذين ينتمي أغلبهم إلى أنصار ومؤيّدي العهد السوري الجديد أو هم من الطامحين إلى حلّ مشكلات سوريا والسوريين والذهاب الى مستقبلٍ أفضل بعيدًا عن أي معوقات في السير نحو هدف سوريا جديدة خارجة من حفرة الأسد ومن تركته.
من المهمّ تجريم الكراهية والعنصرية وإعادة النظر في التسريحات وإعطاء الموظفين رواتبهم وتفعيل دوائر الدولة
بقي أن نشير إلى نقطةٍ أخيرة، بصدد تجربة لجان السلم الأهلي في الأشهر الأخيرة، وهي أنّ التجربة لم تمنع استمرار المشاكل التي أخذ المعنيون على عاتقهم مهمّة معالجتها. ففي الساحل السوري وامتدادًا إلى توابعه ومحيطه في حمص ومناطق غيرها، ما زالت أحداث العنف والأعمال الإجرامية تتواصل، والشكاوى مستمرّة، وروح الكراهية تتزايد، وأجواء التنمّر والشتائم صارت أكثر شيوعًا ووقاحةً، وكلّها تدفعنا نحو التفكير بمخرج.
وحتّى نصلَ إلى مخرج، قد يكون من المهمّ أن تتوجه لجان السلم الأهلي والحكومة السورية من ورائها للتفكير بمعالجة بعض القضايا بينها: إعلانُ تجريم مظاهر الكراهية والتنمّر وممارسة العنصرية، وإعادة النظر في موجة التسريحات العامة التي تمّت، واقتصار التسريحات على المُرتكبين الفاسدين، وإعطاء العاملين والموظفين رواتبهم عن الأشهر السابقة، وتسهيل فرص المواطنين في الحصول على أموالهم من البنوك، وتفعيل ما لم يعمل بعد من دوائر الدولة.
عندها قد تصدمنا النتائج لأنّ مشاكلنا ستكون أقل، وقد لا نحتاج عندها إلى ما نفعله أو بعض ما يجري عمله تحت اسم لجان السلم الأهلي!.
(خاص "عروبة 22")