شكلت الجولة الحالية من المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران تحولا نوعيا في قواعد الاشتباك التقليدية بين البلدين التي سادت خلال الفترات الماضية، التي اقتصرت على ضربات إسرائيلية محدودة ضد المنشآت العسكرية الإيرانية ورد إيران عليها بصواريخ باليستية بعيدة المدى. فقد تجاوزت إسرائيل في هجومها، الذي بدأ فجر الجمعة 13 يونيو، ما اعتبرته إيران خطوطا حمراء، حيث استهدفت لأول مرة وبشكل مباشر وواسع المنشآت النووية الإيرانية في مفاعل "نطنز" ومؤسسة "فوردو" المحصنة و"أراك" و"بوشهر" وغيرها إلى جانب اغتيال ستة علماء نوويين إيرانيين.
كما استهدفت قيادات عسكرية إيرانية، وعلى رأسهم رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري ورئيس "الحرس الثوري" حسين سلامى وأكثر من 20 قيادة عسكرية أخرى، إضافة إلى استهداف مصانع إنتاج الصواريخ الباليستية ومنصات إطلاقها والعديد من القواعد العسكرية المنتشرة في المدن الإيرانية. وفي المقابل قامت إيران بعد استيعاب هذه الضربات الموجعة، والتي كشفت عن اختراق أمنى كبير، بالرد بموجات عديدة من الصواريخ الباليستية ضمن عملية "الوعد الصادق 3" طالت المدن الإسرائيلية الكبرى خاصة تل أبيب وأوقعت العديد من الضحايا من القتلى والمصابين ليدخل الطرفان في صراع مفتوح على كل السيناريوهات.
الموقف الأمريكي من التصعيد الحالي بين إسرائيل وإيران يرتكز على عدة أبعاد:
أولا: حرصت الإدارة الأمريكية على عدم الانخراط بشكل مباشر في الصراع وتأكيد أن الضربات الإسرائيلية ضد إيران بشكل منفرد رغم إقرارها بأنها كانت على علم بتلك الهجمات، لكن الهجوم الإسرائيلي على إيران بهذا الحجم وتوسيع نطاق الأهداف خاصة المنشآت النووية لم يكن ليتم إلا بضوء أخضر أمريكي وبدعم عسكري ولوجيستي كامل، وهو ما اعترف به الرئيس ترامب حيث أشار إلى أن إسرائيل قامت بضربات ناجحة بالعتاد الأمريكي العظيم. كما أن الرئيس ترامب أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لأول مرة باستهداف المنشآت النووية الإيرانية على خلاف إدارة بايدن وأوباما، واللتين نجحتا في كبح الاندفاع الإسرائيلي وعدم استهداف المنشآت النووية الإيرانية، كما حدث في المواجهة التي جرت بين البلدين في أكتوبر الماضي على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث اقتصرت الضربات الإسرائيلية فقط على المنشآت العسكرية.
وبالتالي يمكن القول إن هناك تنسيقا كاملا بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي فيما يتعلق بتوقيت وطبيعة الضربات الإسرائيلية على إيران، فتوقيت الضربة جاء في اليوم الـ61 لمهلة الرئيس ترامب التي منحها لإيران، والتي تقوم على إما التوصل إلى اتفاق نووي جديد خلال شهرين، وإما ستواجه بعواقب وخيمة, وضغط ترامب بالفعل على نيتانياهو لعدم شن الضربات واستنفاد الخيار الدبلوماسي أولا, وهو ما اعترف به نيتانياهو عندما أشار إلى تأجيل الضربة لإيران من أبريل الماضي إلى يونيو, ومع تعثر جولات المفاوضات النووية الخمس السابقة بين أمريكا وإيران، سمح ترامب لنيتانياهو بالهجوم الواسع على إيران بعد انقضاء مهلة الشهرين.
ثانيا: تسعى إدارة ترامب إلى توظيف الضربات الإسرائيلية الموجعة لإيران سياسيا في الضغط على النظام الإيراني لدفعه نحو تقديم تنازلات والتوصل لاتفاق نووي جديد وفقا للشروط الأمريكية، والتي تضمنها مقترح مبعوث الرئيس ترامب ويتكوف، والتي ترتكز بشكل أساسي على تصفير البرنامج النووي الإيراني وتفكيكه، من خلال وقف إيران للتخصيب، وإنشاء بدلا من ذلك اتحاد إقليمي لتخصيب اليورانيوم يقوم بتزويد إيران فقط باليورانيوم المخصب بنسبة 3% اللازمة للأغراض السلمية، خاصة إنتاج الكهرباء والأبحاث العلمية، إضافة إلى تخلص إيران من كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها، والتي تصل إلى 409 كليو جرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وتصل إلى 9247 كيلو جراما من اليورانيوم المخصب بجميع درجاته.
كذلك تخلص إيران من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، خاصة من نوع آي6, أي شلّ قدرة إيران في إمكانية تخصيب اليورانيوم بنسبة مرتفعة وبالتالي إمكانية إنتاج السلاح النووى في أى وقت، وهذا بالطبع ما رفضته إيران وشددت على حقها في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، مع تقديم ضمانات لتبديد المخاوف الأمريكية والغربية بشأن عدم إنتاجها للسلاح النووي مع مطالبتها برفع العقوبات الأمريكية أولا. وبالتالي يسعى ترامب من خلال تجريد إيران من قوتها العسكرية وإضعافها أن يدفعها للتوصل إلى اتفاق جديد في إطار إعطاء فرصة ثانية لإيران وإلا ستكون الضربات الإسرائيلية أشد شراسة.
ثالثا: إدارة أمريكا للصراع الحالي بين إسرائيل وإيران والتي تقوم على المزج بين سياسة العصا والجزرة، أي السماح لإسرائيل باستمرار الهجمات ودعمها عسكريا وبين الدعوة إلى استئناف المفاوضات النووية والتوصل إلى اتفاق نووى جديد، قد تقود بالفعل إلى الهاوية، فعدم كبح إدارة ترامب لاندفاع حكومة نيتانياهو ومنعها من توسيع نطاق الصراع، خاصة المنشآت النووية واغتيال القيادات الإيرانية، قد يقود بالفعل إلى توسيع نطاق الحرب, خاصة أن النظام الإيراني يواجه الآن تحديا وجوديا، وقد يضطر من أجل الحفاظ على بقائه التوجه بالفعل نحو خيار امتلاك سلاح نووي، رغم الضربات التي وجهت لبعض المنشآت النووية، حيث إن هناك مؤسسات مُحصنة تحت الأرض مثل منشآت "فوردو".
التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران ينذر بعواقب خطيرة على الأمن والاستقرار في المنطقة وتداعيات سلبية اقتصادية وأمنية وسياسية ويتطلب دورًا أكثر فاعلية من جانب الولايات المتحدة لضبط مسار التفاعلات ومنع خروج الأمور عن السيطرة بالضغط على الجانب الإسرائيلي من ناحية والتركيز على إبرام اتفاق نووي جديد لنزع فتيل الانفجار في المنطقة.
(الأهرام المصرية)