يتحرك رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مدعومًا بالضوء الاخضر الممنوح له أميركيًا من أجل اضعاف ايران سياسيًا وعسكريًا وتعزيز السطوة الاسرائيلية في المنطقة وذلك ضمن رؤيته لـ"الشرق الأوسط الجديد" الذي تحدث عنه مرارًا وتكرارًا منذ أحداث 7 أكتوبر 2023. فالطموحات الاسرائيلية التي تُترجم بالاعتداءات اليومية على لبنان وسوريا واليمن بالتزامن مع استمرار حرب غزّة، منذ أكثر من 20 شهرًا، خير دليل على أن موازين القوى يُعاد انتاجها وقولبتها ولكن بطريقة تثير مخاوف جسيمة من فقدان التوازن وبالتالي التأثير على النظام الاقليمي لان تل أبيب تسعى الى أن تكون القوة الأكثر هيمنة وسيطرة.
ويمكن القول إن المخططات الاسرائيلية على مدار السنين لم تكن لتبصر النور لولا الدعم اللامتناهي من قبل الادارات الاميركية المتعاقبة بحجة "حماية أمنها" و"حقها بالدفاع عن نفسها". فعلى الرغم من ان جولات المفاوضات غير المباشرة الايرانية - الاميركية كانت تُبشر بامكانية تحقيق "خرق ما" والتوصل الى اتفاق نووي جديد بوساطة عُمانية، الا ان الايام الاخيرة عكست إيذانًا بقرب بدء معركة ضد طهران التي رفعت "بطاقات حمراء" ضد ما أسمته حقها في انتاج وتخصيب اليورانيوم. وربما لم يكن مرشدها علي خامنئي يتوقع حربًا "مباغتة" خاصة ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب حاول "الايهام" برفضه الحلول العسكرية والجنوح نحو المسار التفاوضي الديبلوماسي.
الا ان "حسابات الحقل لم تتفق مع حسابات البيدر" اذ اعطت واشنطن أذنًا لضرب المنشآت النووية الايرانية وفرض واقعًا جديدًا لحشر طهران وجعلها تجلس على طاولة المفاوضات ولكن بشروط جديدة تتوافق مع المطالب الاميركية التي تراعي اسرائيل وهواجسها. وما زاد الطين بلة هو مدى التغلغل الاسرائيلي في العمق الايراني عبر زرع عملاء للموساد، قاموا بوضع أجهزة تشويش وتفخيخ صواريخ وأنظمة دفاع جوي، ما جعل العملية المخطط لها منذ سنوات بدقة تستهدف كبار الشخصيات الايرانية والعلماء النوويين في محاولة مكشوفة من تل أبيب لضرب "الرأس لا الذيل". وفي التطورات الميدانية الاخيرة، يمكن القول إن التصعيد بين الجانبين سيد الموقف. فايران لا تزال تنفذ هجمات صاروخية واسعة النطاق في وقت يقبع ملايين الاسرائيليين في الملاجىء. أما الهجمات الجوية الإسرائيلية فتصاعدت وتيرتها حيث استهدفت مواقع عسكرية ونووية مهمة داخل إيران، وفق ما أفادت به وكالات أنباء رسمية.
ويترافق ذلك مع تأكيد "الحرس الثوري الايراني" مقتل رئيس استخباراته الجنرال محمد كاظمي ونائبه الجنرال حسن محقق وقادة آخرين. هذا وترتفع حصيلة الخسائر البشرية مع اعلان طهران عن مقتل ما لا يقل عن 224 شخصًا واصابة 1000 آخرين جراء الهجمات الإسرائيلية منذ الجمعة الماضي، من بينهم 60 شخصًا، نصفهم أطفال، سقطوا، يوم السبت، عندما دمَّر صاروخ مبنى سكنيًا من 14 طابقًا في طهران. وتعاني الحكومة من عدم قدرتها على توفير الملاجىء حيث دعت المواطنين الى الاحتماء بالمساجد ومحطات المترو والمدارس. ويأتي ذلك وسط مؤشرات بأن الايام المقبلة ستكون حبلى بالمزيد من العمليات العسكرية مع اعلان الرئيس الاميركي أن "الولايات المتحدة قد تتدخل لدعم إسرائيل في القضاء على البرنامج النووي الايراني"، ولكنه، في المقابل، أعرب عن أمله في أن تتوصل إسرائيل وإيران إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
في غضون ذلك، تسعى العديد من الدول الى لعب دور الوسيط، فالى جانب عُمان وقطر هناك مساعي روسية وتركية، لوقف التدهور الامني الحاصل وتجنيب المنطقة من تداعيات هذا الصراع، الذي لن يستثني احد في حال طالت مدته. فالوساطات، على كثرتها، مؤجلة حاليًا رغم أن المستجدات الراهنة تنذر بتصعيد إقليمي خطير، فتل أبيب ماضية في رفع سقف المواجهة الى اقصى حدّ ممكن. وكانت وكالة "رويترز" نقلت عن مسؤوليْن أميركييْن أن الرئيس ترامب عارض في اليومين الماضيين خطة إسرائيلية لقتل المرشد الإيراني علي خامنئي. وفيما رفض نتنياهو التعليق مكتفيًا بالقول "نعتقد أننا نفعل ما يجب علينا فعله، وسنفعل ما يجب علينا فعله. وأعتقد أن الولايات المتحدة تعرف الأصلح لها". اضاف "مستعدون لفعل كل ما يتطلبه الأمر لتحقيق هدفنا المزدوج؛ القضاء على تهديدين وجوديين هما التهديد النووي وتهديد الصواريخ الباليستية".
وإذ جدّد نتنياهو تصريحاته التي تعتبر أن الهجمات التي تشنها إسرائيل قد تؤدي إلى تغيير النظام في إيران. قال "تحركنا بالفعل لإنقاذ أنفسنا، لكنني أعتقد أيضًا أن الأمر ليس فقط لنحمي أنفسنا، بل لنحمي العالم من هذا النظام التحريضي. لا يمكن أن نسمح لأخطر نظام عالمي بامتلاك أخطر سلاح في العالم". وتغلب أخبار الحرب الايرانية - الاسرائيلية على جدول أعمال قمّة مجموعة السبع، التي تنعقد هذا الأسبوع في كندا. وبدت الدول الاوروبية اكثر حذرًا من الرئيس ترامب في دعمها لاسرائيل، رغم اعلانها العلني الوقوف مع "حقها في الدفاع عن نفسها".
ووجه المستشار الألماني فريدريش ميرتس دعوة الى نظرائه لتوحيد الصف حيال التصعيد في الشرق الأوسط، معربًا عن أمله في التوصل إلى اتفاق بشأن أربع نقاط ضمن اطار مسعى لحلّ الصراع بين إسرائيل وإيران. ويمكن ايجاز ابرز النقاط بـ: "عدم السماح لإيران بتطوير أو امتلاك أسلحة نووية، حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها ضد التهديدات التي تستهدف وجودها"، اما النقطتان الثالثة والرابعة، فهما الحيلولة دون تصاعد التوتر وضرورة تهيئة الارضية للتشجيع على السُبل الدبلوماسية.
تزامنًا، تقلص الاهتمام بما يجري في غزّة بعدما تصدرت المواجهات بين طهران وتل أبيب العناوين. ورغم التراجع في تغطية الاخبار، الا ان الواقع لا يزال على حاله مع استمرار اتباع قوات الاحتلال التجويع والتعطيش ضد سكان القطاع، الذين تحولوا الى ضحايا اثناء الرحلة المُميتة للحصول على المساعدات الانسانية. وفي هذا الاطار، أفادت مصادر صحية عن استشهاد 52 شخصًا، منهم 17 شخصًا من منتظري المساعدات منذ فجر أمس الأحد. وكان المكتب الإعلامي الحكومي أشار الى أن 300 فلسطيني استشهدوا وأصيب 2649، بينما لا يزال 9 في عداد المفقودين، منذ 27 أيار/ مايو الماضي، خلال محاولتهم الوصول إلى مراكز التوزيع التي تشرف عليها "مؤسسة غزة الانسانية"، المدعومة أميركيًا. وحلت هذه المؤسسة مكان المنظمات الدولية والامم المتحدة التي انتقدت بشدة هذه "الآلية الاسرائيلية - الأميركية" التي تسهم في تعميق مأساة الفلسطينيين وتستخدم التجويع كأداة حرب كما تنفذ سياسة اسرائيل الهادفة الى التهجير عبر حصر مراكز التوزيع في 4 نقاط فقط.
في سياق متصل، تواصل القوات الاسرائيلية عمليتها العسكرية في الضفة الغربية حيث نفذت أمس حملة اعتقالات واسعة شملت العشرات من الفلسطينيين، بينهم أطفال، وتركّزت في مدن الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس. وتأتي الاقتحامات والاعتقالات، فيما يواصل جيش الاحتلال لليوم الثالث على التوالي فرض قيود مشددة على حركة الفلسطينيين في الضفة، عبر إغلاق مداخل المدن والقرى بالحواجز العسكرية والبوابات الحديدية، في إطار ما تصفه السلطات الإسرائيلية بـ"إجراءات أمنية احترازية". ويتعمد الاحتلال كما المستوطنين تضييق الخناق على الفلسطينيين ودفعهم للمغادرة وتهجيرهم من ارضهم وممتلكاتهم بهدف توسيع سياسة الاستيطان التي وصلت الى اعلى مستوى لها بعد عملية "طوفان الاقصى".
على المقلب الاخر، تدرس إدارة الرئيس ترامب توسيع نطاق حظر سفر ليشمل منع مواطني 36 دولة إضافية من دخول الولايات المتحدة. وكان الرئيس ترامب وقع في وقت سابق من هذا الشهر قرارًا مماثلًا شمل 12 دولة، بينها 4 دول عربية، بحجة "حماية الولايات المتحدة من الإرهابيين الأجانب" ومن تهديدات أخرى متعلقة بالأمن القومي. ويبرز في القرار الجديد، الذي اطلعت عليه وكالة "رويترز"، دول عربية أخرى منها مصر وسوريا. ومنذ عودته الى البيت الابيض، رفع ترامب شعار محاربة المهاجرين واتخذ اجراءات غير مسبوقة في هذا الشأن.
كما الامس، هيمنت الحرب الايرانية - الاسرائيلية على عناوين الصحف العربية الصادرة، والتي يمكن ايجاز أبرز تحليلاتها ومقالاتها على الشكل التالي:
أشارت صحيفة "الصباح" العراقية الى أن "إسرائيل تخوض صراعاتها بغطاء استراتيجي دولي، في حين أن إيران تخوضها تحت ضغط حصار مستمر، ومع ذلك، فإن الطرفين يبدوان في موقع تعادل تكتيكي متكرر، لا يُحسم لا بتفوق تقني ولا بخطاب ناري، بل بتراكم الصبر والسيطرة على الوقت والتكلفة". ووضعت ما يجري "بين "السلاح العظيم" الذي تفتخر به إسرائيل، و"الإرادة الصلبة" التي تراكمها إيران، ومن هنا تتشكل ملامح معركة لا تُختصر بضربة هنا أو رد هناك، بل بتوازن ردع يصعب اختراقه".
ورأت صحيفة "عكاظ" السعودية أنه و"منذ قدوم الرئيس ترامب وضع في أولويات أجندته إنهاء المشروع النووي الإيراني، المفاوضات لم يكن ينطبق عليها مفهوم المفاوضات الدبلوماسية، بل كانت تهديدًا مفاده إما التخلي التام عن البرنامج أو الحرب، ومن الطبيعي ألا يصل حوار كهذا إلى نتيجة"، لافتة الى أنه "إذا تحلت أمريكا بالحكمة والعقل وتغليب المصالح للجميع في المنطقة فلن تتورط وسوف تجبر إسرائيل على إيقاف الحرب، أما إذا تم استدراجها فسندخل مرحلة أسوأ من كل المراحل التي عاشتها المنطقة".
أما صحيفة "الرياض" السعودية، فشددت على أن "الآثار الجيوسياسية لهذه الحرب - إن طالت - على منطقة الشرق الأوسط، فلربما سيكون منها إعادة تشكيل الخارطة وترتيب القوى الإقليمية". وقالت "قد نشهد في حال استمرار الضغط الغربي - الإسرائيلي تحولات داخلية كبرى في إيران، حيث قد يؤدي استنزاف الموارد والانكسارات العسكرية إلى تصاعد الضغط على النظام في طهران، ما قد يفتح الباب أمام تغييرات سياسية داخلية، أو انكفاء النظام إلى حدوده الجغرافية لعدة سنوات"، بحسب قولها.
الموضوع عينه ناقشته صحيفة "الوطن" البحرينية التي أكدت "أن المواجهات بين إسرائيل وإيران قد تكون بداية لحرب إقليمية إذا لم يتم احتواؤها من قبل واشنطن في المقام الأول كونها هي من تملك وقود الحرب الذي تتحرك فيه تل أبيب". وأردفت قائلة: "دول المنطقة لا تتحمل أي مستوى تصعيد لا على المستوى العسكري ولا على مستوى تبعات أي أضرار أو كوارث بيئية مثل التلوث الإشعاعي؛ بسبب قرار اتخذه نتنياهو ليبقى في المشهد السياسي الداخلي".
من جانبها، كتبت صحيفة "الأهرام" المصرية "بدأ مسلسل الحرب الكبرى في الشرق الأوسط في آخر المعارك بين إسرائيل وإيران، ولا يمكن الفصل بين الهجوم على إيران وما حدث في غزة وسوريا و"حزب الله" واليمن، كانت هذه مقدمات للمعركة الكبرى". وتابعت "إن القائد الحقيقي لما يجرى الآن هو الرئيس ترامب، بالفكر والتخطيط والسلاح والأموال. وقد تكون المواجهة مع إيران هي آخر فصول صفقة القرن والشرق الأوسط الجديد..وعلى العالم العربي أن ينتظر توابع ما يجري، لأن غياب إيران عن الساحة لن يكون نهاية المطاف".
في السياق عينه، أوضحت صحيفة "الدستور" الأردنية أن "المعركة مفتوحة، ولا أحد يستطيع التكهن بالنتائج لأن النتائج السياسية، مرتبطة بما يجري على الأرض وفي الميدان، والمواجهة ما زالت قائمة واستهداف المدنيين الإسرائيليين ما زال يترك الأثر البليغ على سير المعارك"، متسائلة "هل تقبل إيران الإهانة التي وجهت لها بقتل القادة والمسّ بالقدرات؟؟ وهل الضربة أخلّت بالقدرة الإيرانية أم أن قدراتها رغم الخسائر، مازالت متوفرة لتوجيه ضربات موجعة للمستعمرة الإسرائيلية؟".
ونبهت صحيفة "القدس العربي" من أن "إسرائيل نجحت في خلق دينامية قادرة على جرّ الولايات المتحدة والدول الغربية إلى حرب شاملة ضد إيران"، جازمة أن "وقف هذه الدينامية مرتبط، إلى حدّ بعيد، بالقرارات التي ستتخذها القيادة الإيرانية. وفي هذا السياق، من الضروري أن تتحرك دول المنطقة بسرعة وحزم، لأن نجاح إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة لإيران سيمنحها القدرة على فرض سيادتها على المنطقة كاملة، وهو ما سيغيّر موازين القوى ويهدّد مستقبل هذه الدول ومصالحها الاستراتيجية بشكل مباشر".
(رصد "عروبة 22")