تؤكد المعطيات الميدانية توجّه "إنترنت الأشياء" نحو حوْكمة الحياة اليومية على كوكب الأرض بعيدًا عن الإرادة الواعية للبشر، عبر آلة ذكية موزّعة بين مئات وآلاف الكائنات الذكية الصغيرة الموزعة حولنا، تراقب وتحلل وتنفذ من تلقاء ذاتها سواء محليًّا، أو عولميًّا عبر إرسال بياناتها إلى السحابة، لأنّها قادرة على الوصول السريع وإلى كل مكان، ما يجعل التحكّم الآلي منتشرًا، والسلطة غير معروفة.
"حكومات النفوذ الخفي" تجمع تحالف أجهزة الأمن والاستخبارات إضافة إلى شركات التكنولوجيا العالمية
هذا الشكل الجديد من الحوْكمة الآلية يتقاطع مع ما وصفه بارلو بـ"حكومات النفوذ الخفي". وعندما تحدّث بارلو عن النفوذ الخفي الجديد والآخذ في الظهور بتسهيل وتواطؤ من المجتمع التكنولوجي الحالي، كان يشير بالأساس إلى اتساع وزيادة سطوة الطبقة العميقة من البيروقراطية الأمنية والاستخباراتية وشركات التكنولوجيا، التي تتوسّع في مراقبة الدول والمواطنين وتوجيههم عبر الأجهزة الذكية الموزعة من حولهم، وعبر الشبكات الاجتماعية والمحتوى الرقمي، بغرض السيطرة على العالم المادي والفضاء الرقمي معًا.
ولئن كانت الحكومات التقليدية قد تشكّلت سابقًا من فاعليين تقليديين (وجهاء وسياسيون، وقادة جيش وأمن) وتستقي شرعيتها من قدرتها على ضبط النظام في ظلّ الدولة القومية، فإنّ "حكومات النفوذ الخفي" اليوم تجمع في جوفها تحالف أجهزة الأمن والاستخبارات إضافة إلى شركات التكنولوجيا العالمية بغرض السيطرة على تدفق المعرفة والمعلومات، بما يخدم مصالحها وتوجهاتها. ما يؤكد وجود شبكةٍ معقّدةٍ من البيانات الضخمة والدقيقة، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي المُشبعة بالتفاعلات والتوجيهات التي تساعدها على التعلم الاجتماعي كما يُرادُ تشكيله عالميًا ومحليًا، قد تتحوّل في أغلب الأحوال إلى مصائد للأنظمة والأفراد في بيئاتٍ استبداديةٍ غير آمنةٍ تقرّر زمن الحرب وزمن السلم، عبر البيانات والمعلومات وليس حسب ما تقرّره الإرادة البشرية.
لقد أصبحنا اليوم أمام حوْكمةٍ عالميةٍ ما بعد إنسانية، تقرّر فيها "إنترنت الأشياء" متى وكيف تكون الحرب، ثم تمرّرها للنظام السياسي ليشرعنها، ثم تنقلها للجهاز العسكري لينفذّها.
مجموعة من الأشخاص والتيارات داخل الدولة وخارجها تتحكّم خلف الكواليس في القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية
شكّل ذلك اختراعًا ثوريًا للشركات والقوى العالمية والأنظمة السياسية، وحقق أقصى العوائد والمنافع الممكنة، لأنّه وفّر إمكانية الحصول على السلطة والهيمنة والاستبداد بكمّيات غير مسبوقة وبأقل تكلفة، اعتمادًا على البنية التحتية لـ"إنترنت الأشياء"، وخوادم الذكاء الاصطناعي، من ذلك مثلًا خادم الويب (Web Server)، خادم الملفات (File Server)، خادم قواعد البيانات (Database Server)، والخادم السحابي (Cloud Server).
من جهةٍ أخرى، وفي سياق أنظمةٍ سلطوية واستبدادية، مثل دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تُمنح الأولوية للحفاظ على الوضع القائم وحماية المصالح على حساب حقوق الأفراد المدنيّة، ومع أنّ أغلب الحكومات المُتعاقبة في هذه المنطقة تؤكد سعيها الدؤوب نحو إقرار ديموقراطية تمثيلية واحترام حقوق الانسان وحرية التعبير، إلّا أنّ الفشلَ في تنزيلها يؤكد وجود "حكومات نفوذ خفي" عبارة عن شبكة أو مجموعة من الأشخاص والتيارات داخل الدولة وخارجها تتحكّم فعليًا خلف الكواليس في القرارات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية اعتمادًا على ما لديها من معطيات وبيانات، وتُعيد إنتاج شروط وجودها لاستدامة هيمنتها وبقائها في السلطة، من دون أن تكون جزءًا واضحًا أو شفافًا من الحكومة المُنتخبة أو الرسمية. وتشمل عادةً كبار المسؤولين غير المنتخبين، واللوبيات الاقتصادية والمالية، ومجموعات الضغط والمصالح، يُضاف إليها اليوم تحالف أجهزة الاستخبارات والمال والإعلام وعلى نحوٍ عالميّ.
تضارب عربي بين المحلي والعالمي بخصوص التعامل مع مُخرجات الذكاء الاصطناعي
في العام 2017، أطلقت السعودية مشروع "نيوم"، وهو أول مدينة ذكيّة في العالم، تمتدّ على نحو 26500 كيلومتر في شمال غربي الرياض، تصل تكلفتها إلى نحو 500 مليار دولار، كما أطلقت الإمارات مشروع جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وتبعتها في ذلك دول مثل قطر والكويت والبحرين وسلطنة عُمان.
واضح أنّ أغلب هذه المشاريع تحاول استثمار الذكاء الاصطناعي العميق والمتقدّم في الصحة والتعليم والمدن الذكية، وخدمات المواطنين وإدارة الطاقة وجودة البيئة، لكن التكهّن بنجاعتها وقدرتها على بلوغ الأهداف تبقى غير واضحة، بالنّظر إلى التضارب العربي الحاصل فيما بين المحلي والعالمي، بخصوص التعامل مع مُخرجات الذكاء الاصطناعي (إنترنت الأشياء): ما بين نموذج أوروبي يسعى لحماية الخصوصية، ونموذج أميركي يسعى لحماية حرية التعبير وتداول المعلومات، ونموذج عربي سلطوي لا يسمح لا بهذه ولا بتلك!.
(خاص "عروبة 22")