فلسطين... القضية والبوصلة

التاريخ الأسود لـ"المكتبة الوطنية" الإسرائيلية: أنا أسرق إذن أنا موجود!

لم تكتفِ دولة الكيان الصهيوني بنهب أرض وتزوير تاريخ شعبٍ بالكامل مع ما رافق ذلك من عمليات سطو ونهب أملاك وممتلكات من منازل الفلسطينيين، بل نهبت الكُتُب والمخطوطات في فلسطين، ويقدَّر عددها بنحو 80 ألفًا على الأقل، وهو الأمر الذي يُعدّ بلا شكّ جزءًا لا يتجزّأ من "النكبة".

التاريخ الأسود لـ

إنّها قصة طويلة مؤلمة من النهب والسلب والسرقة يرويها بالتفصيل المؤرّخ الإسرائيلي غيش عميت، في كتابه "بطاقة مُلكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة بئر السبع، قام فيها عميت بدراسةٍ أكاديميّةٍ معمّقةٍ تكشف عن عمليات الاستيلاء المُمنهج على التراث الثقافي الفلسطيني من قبل المؤسّسات الإسرائيلية، لا سيما "المكتبة الوطنية" التابعة للجامعة العبرية في القدس.​ كما كشف الكتاب عن استراتيجيّات النّهب وآليات إخفائها وتقديمها أعمالًا جليلةً مُنحازةً للمعرفة، واعتمد عميت على الوثائق والشهادات الحيّة، والاعترافات الصريحة، مما يجعله مرجعًا مُهمًّا لفهم السياسات الثقافية الإسرائيلية.

العصابات اليهودية نجحت في سرقة الكُتُب والمخطوطات الفلسطينية بغرض محو الذاكرة الثقافية الفلسطينية

ووفقًا للوثائق والإفادات التي وثّقها عميت، فقد شارك العديد من الصهاينة، على مستوى الأفراد والجماعات، في عمليات السطو الجماعي على كنوزٍ من الكتب والمخطوطات الفلسطينيّة أثناء عمليات التهجير والتشريد، ويؤكّد أنّ العصابات اليهودية نجحت في سرقة الكُتُب والمخطوطات نتيجة وجود سياسةٍ إسرائيليةٍ رسميةٍ تُشجّع على نهب وسلب كلّ التراث الفلسطيني، بغرض محوِ الذاكرة الثقافية الفلسطينية، وتهميش الهوية الفلسطينية وإلقاء الفلسطيني وتاريخه في عالم النسيان. وتعبير المفكّر اليهودي المُنصف إيلان بابيه هو: "سرقة الممتلكات الثقافية للفلسطينيين لا تختلف عن سرقة الأرض".

المكتبة السوداء

ويركّز الكتاب على عملية سرقة نحو 30 ألف كتاب ومخطوطة فلسطينية من القدس الغربية بعد احتلالها عام 1948، إذ نَهَبَ أمناء المكتبات الصهاينة بيوت الفلسطينيين المهجورة وأفرغوا مكتباتهم في صناديق، ثم نقلوها إلى "المكتبة الوطنية" الإسرائيلية. ​

وسرعان ما ظهرت شبكة مخابرات تقتفي أثر المكتبات لنهبها، وأعلن وزير الداخلية سنة 1948، يتسحاق غرينبويم، "تشكيل لجنةٍ من قبل الجامعة العبرية، يسير أعضاؤها وراء الجنود ويجمعون الكُتُب منها، كما سرق الوصيّ على أملاك الغائبين نحو 40.000 كتاب بعد نكبة 1948 والأعوام التي تلتها، من مدن يافا وحيفا وطبرية والناصرة وأماكن سكنيّة أخرى".

وكانت غالبية الكُتُب كُتُبًا تعليميّة جُمعت من مؤسّسات ومدارس ومساجد وكنائس، وحُفظت في مخازن أقيمت لهذا الغرض في حيفا ويافا والناصرة والقدس، والكثير من هذه الكُتُب بيع مجدّدًا للمدارس العربيّة، ونحو 100 منها نُقلت عام 1954 إلى قسم علوم الشرق في "المكتبة الوطنيّة"، فيما جرى التخلّص من 26 ألف كتاب، باعتبار أنّ هذه الكُتُب لا تُلائم المدارس العربيّة في البلد، وأيضًا لأنّ قسمًا منها احتوى على مواد مناهضة للدولة اليهودية، ويمكن لنشرها أو تسويقها أن يُلحق الضرر بالدولة.

سُـرقت مكتبات كاملة لعائلات فلسطينية وكُتّاب وأدباء فلسطينيين ومكتبات مدارس وكنائس ومؤسّسات تربوية

واحتفظت "المكتبة الوطنية" بآلاف الكُتُب والمخطوطات، وحوّلتها إلى جزءٍ من مجموعات الكُتُب والمخطوطات في "المكتبة الوطنية"، التي تدَّعي أنها تسير على نهج الرؤية الثقافية للدولة العبرية التي وضعها تيودور هرتزل في خطابه أمام المؤتمر الصهيونيّ الأول عام 1897، إذ قال: "يتّضح تباعًا أنّ مصلحة الأمم المتحضّرة والحضارة برمّتها تكمن في إقامة محطة ثقافيّة عبر أقصر الطرق المؤدّية إلى آسيا، هذه المحطة هي أرض إسرائيل".

سُـرقت مكتبات كاملة لعائلات فلسطينية وكُتّاب وأدباء فلسطينيين، منها مكتبة المفكّر الفلسطيني خليل السكاكيني (تاريخ 1953)، ومكتبة محمد إسعاف النشاشيبي (ت 1948) الغنية بالكتب النفيسة والمخطوطات النادرة، مثل مخطوطة للقرآن الكريم كُتبت بماء الذّهب، ومكتبات هنري قطان، وحنّا عطا الله، وعارف حكمت النشاشيبي، وفرنسيس خياط وهاكوب مليكيال، وأيضًا مكتبة الشقيري في عكّا، ومكتبات العديد من المدارس والكنائس والمؤسّسات التربوية.

وتتنوّع الكُتُب لتشمل مجالات التراث والآداب والعلوم والفنون والعمارة والشريعة الإسلامية واللاهوت والترجمات والتاريخ والجغرافيا والفلك والفلسفة... إلخ. كما تشمل رواياتٍ وأعمالًا أدبيةً وفكريةً لعدد كبير من الفلسطينيين، منها أعمال جميل البحري (ت 1930)، ونجيب نصار (ت 1948)، وغسان كنفاني (ت 1972)، وإميل حبيبي (ت 1996) وغيرهم الكثير.

خدمة التطبيع

استغلّت "المكتبة الوطنية" كنوز المخطوطات العربية النادرة والمراجع والمصادر العربية النفيسة، وقدّمتها للباحثين العرب والمسلمين على أنها خدمة للإنسانية، لكنها في الحقيقة في خدمة التطبيع. ويُعدّ ذلك جريمةً أخلاقيةً لمن يسمح لنفسه من الباحثين العرب بالاستفادة منها، فهو بذلك يُقرّ بالجريمة ويُساعد على طمس الحقيقة، ويزيد العراقيل الموضوعة لعدم استردادها مرة أخرى.

استرداد المنهوب

يفضح عميت في الكتاب سياسة الصهيونية القائمة على السرقة والتبجحّ بها، ويؤكّد أنّ حقيقة جمع الكُتُب يناقض نفي الصهيونية وإنكارها لحضور ووجود الفلسطينيين أصحاب البلاد.

ويسلّط الكتاب الضوء على أهمية استعادة هذه الذاكرة بصفتها جزءًا من النضال الوطني الفلسطيني، ويسهّل إعادة هذه الكُتُب لأصحابها، أو تسليمها للسلطة الفلسطينية أو لإحدى الجامعات في الأراضي الفلسطينية، وقد مُيِّزت بالحرفَيْن "AP"، اختصارًا لعبارة "ممتلكات مهجورة "(Abandoned Property)، ويمكن وضع الاسم الحقيقي لها وهو "أملاك مسروقة"، ولا تزال تحمل الرمز "AP" إلى يومنا هذا، ويُمنع تداولها خارج مكان حفظها، وما يعنيه هذا الرمز أيضًا أنّ الكُتُب يجب أن تُعاد إلى ملّاكها الأصليين، وتوجد غالبية الكُتُب المنهوبة في قسم الشرق التابع لـ"المكتبة الوطنية".

ما يسرقه الاحتلال يكشف زيفه ويُثبت أنّه محتلّ لأرض عربية

وعلى حدّ قول عيسى قراقع، رئيس المكتبة الوطنية الفلسطينية: "هذه السرقات تُعدّ جريمة حرب منظَّمة مكتملة الأركان ضد الإنسانية، ولا تختلف عن جرائم سرقة الأرض ونهب الموارد الطبيعية. ومن هنا لا بدّ من ملاحقاتٍ قانونيةٍ، لمحاسبة دولة الاحتلال الإسرائيلي على ارتكابها أكبر عملية سرقة ثقافية في التاريخ، ومخالفة المادة الأولى من اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المُسلَّح عام 1954 (الباب الأول - أحكام عامة بشأن الحماية). ولا بدّ من مطالبة الحكومة الإسرائيلية بإعادتها، ودفع تعويض مادّي عن الكُتُب والمخطوطات التي أتلفتها أو باعتها".

على الرَّغم من مساعي الاحتلال لصناعة تاريخ مزيّف على حساب نهب الإرث الفلسطيني ونسبه إليه، فإنّ ما يسرقه بطرقٍ غير مشروعةٍ يكشف زيفه، ويُثبت أنّه محتلّ لأرض عربية لا وجود له من أساسٍ فيها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن