لم تخرُج إجابة الصحافي المُخضرم، إن لم تخنّي الذاكرة عن تفصيلٍ لنقطتَيْن، أولاهما: "الولاء المزدوج" لدى بعض أركان الإدارة الأميركية لأسبابٍ دينيةٍ أو انتخابية. والثانية: كون الانحياز المُطلق لإسرائيل يُمثّل ثقافةً سياسيةً "مُتوارثةً" لا تخضع حتّى لإعادة التفكير، وهو ما جعل باراك أوباما يفشل في إحداث ما حاوله من توازنٍ في السياسة الأميركية في المنطقة.
إسرائيل لم توقّع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ومنشآتها النووية لا تخضع للتفتيش من قبل الوكالة الدولية
لم يكن بوسع الإسرائيليين أن يفعلوا مع الصحافي الأميركي الشهير ما فعلوه مع موردخاي فانونو (Mordechai Vanunu) الفنّي السابق في مفاعل "ديمونة" الإسرائيلي، والذي كان أوّل من كشف بالوثائق والصور تفاصيل برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي للصحافة البريطانية عام 1986. فلم يكن أمامهم في مواجهة كتاب هيرش الذي وزّع ما يزيد عن مليون نسخة غير أن يُحاولوا عبر أذرعهم الإعلامية لفت الأنظار عن قضية الكتاب الرئيسية الخاصّة بالترسانة النووية الإسرائيلية، والتي أكد وجودها الصحافي الاستقصائي الشهير في عديد الوثائق، إلى مسائل فرعية مثل التشكيك في ما ذكره الكتاب عن الدور الذي قام به الناشر البريطاني الثري روبرت ماكسويل، صاحب صحيفة "Daily Mirror"، وكيف ساعد إسرائيل (إعلاميًا) في محاولة خنق شهادة فانونو المنشورة في الـ"صنداي تايمز"، (واستخباراتيًا) في تسهيل تخديره وخطفه على يد عملاء "الموساد".
يومها حاول نيكولاس دايفيس (Nicholas Davies) أحد محرّري ماكسويل نفي ما أورده هيرش في كتابه عن تورّطه في الأمر، وعلاقته الخاصّة بالموساد. إلا أنّ صحيفة بريطانية أخرى نشرت صورًا ووثائق تُثبت ما نشره هيرش، ممّا اضطرّ ماكسويل إلى قبول استقالة محرّره قبل أن يذهب بعد ذلك بأسابيع فقط إلى نهايته "الغامضة"؛ غريقًا في مياه جزر الكناري ليدفن في إسرائيل، ويحضر جنازته الرئيس حاييم هيرتسوغ، ورئيس الوزراء إسحاق شامير. وهي نهاية لا تختلف في غموضها عن نهاية جيفري إبستين (2019)؛ تاجر القاصرات، وصاحب الملفات والعلاقات المتشابكة والغامضة، والذي كان "بالمصادفة" شريكًا لابنة الملياردير البريطاني ذاته!.
على الرَّغم من سياسة "الغموض النووي" المُعتمدة إسرائيليًا، لم يكن كتاب سيمور هيرش، ولا وثائق موردخاي فانونو وحدهما الدليل على وجود الترسانة النووية الإسرائيلية، ففي تقريره عام 2006 أمام مجلس الشيوخ الأميركي قال روبرت غيتس وزير الدفاع في حكومة جورج دبليو بوش "إنّ إسرائيل تمتلك أسلحةً نوويةً"، وللمفارقة كان كلامه هذا في إطار ردّه على سؤال: "لماذا يظنّ أنّ إيران قد تسعى لامتلاك قنبلة نووية؟".
تصريح وزير الدفاع الأميركي ليس الوحيد، ففي أرشيف العديد من المسؤولين الإسرائيليين الكبار تصريحات، أو بالأحرى "زلّات لسان" تعترف صراحةً بذلك. في أعقاب الضربة الإسرائيلية للمفاعل النووي العراقي (1981)، قال موشيه ديان لصحيفة "نيويورك تايمز": "We do have the capacity to produce nuclear weapons". أمّا شيمون بيريز، فلم يفتقد اعترافه ما عُرف عنه من دهاء وديبلوماسية، ففي إجابته على سؤال في مؤتمر صحافي في العاصمة الأردنية عمّان (1998)، قال إنّ إسرائيل بَنَت خيارها النووي "Not in order to have a Hiroshima but an Oslo".
فشلت الجهود العربية كلّها في توفير ضغط كافٍ لإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي
بعد وثائق فانونو، وكتاب هيرش، وزلّات لسان المسؤولين الإسرائيليين، هل ما زلنا بحاجةٍ إلى تأكيد أو إشارات لامتلاك إسرائيل (دونًا عن جميع جيرانها) سلاحًا نوويّا؟ لا بأس:
- في حقائق القانون أنّ إسرائيل لم توقّع حتى الآن على "معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية" (NPT)، والتي وقّع عليها حتّى اليوم 191 دولة، وبالتالي فمنشآتها النووية لا تخضع للتفتيش من قبل "الوكالة الدولية للطاقة الذريّة" (IAEA).
- في وقائع التاريخ، أنّه وعلى الرَّغم من العلاقات الخاصّة جدًا بين البلدَيْن، ألغى بنيامين نتنياهو مشاركته في "قمة الأمن النووي" (NSS) التي دعا إليها باراك أوباما في واشنطن (أبريل/نيسان 2010)، "خشية مطالبته بالتوقيع على معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية"، كما قالت الصحف يومها.
- في ملفات الديبلوماسية، أنّ محاولات محمد البرادعي لجعل الشرق الأوسط منطقةً خاليةً من السلاح النووي، حين كان مديرًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية - اصطدمت بمعوقاتٍ مفهومة، كما فشلت الجهود العربية كلّها (وعلى رأسها الجهود المصرية) في توفير ضغطٍ كافٍ يدفع إسرائيل للانضمام لتلك المعاهدة، أو لإعلان الشرق الأوسط منطقةً نظيفةً خاليةً من السلاح النووي. (جرت الإشارة إلى هذه الجهود "المُحبطة" في بيان وزراء خارجية الدول الإحدى والعشرين العربية والإسلامية، الصادر قبل أيام).
أي منطق يسمح لدولة تملك سلاحًا نوويًا بضرب دولة أخرى بحجّة منعها من إمكانية تصنيع قنبلة نووية؟
بمنطق "شعب الله المختار"، والذي يجعلهم "فوق المُساءلة"، فضلًا عن المقارنة، لم يكتفِ الإسرائيليون بتجاهل كلّ تلك الحقائق، بل نجحوا في أن ينسى العالم كله طرح الأسئلة ذات العلاقة:
- هل يمكن تطبيق أي معاهدة دولية للحدّ من انتشار الأسلحة النووية، إذا لم تؤخذ ترسانة إسرائيل النووية في الحِسبان؟
- هل يمكن للدول العربية أن تتجاهل حقيقة امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية؟
- قبل هذا وذاك: أي منطق هذا الذي يسمح لدولة (تملك سلاحًا نوويًا) بضرب دولةٍ أخرى بحجّة منعها من إمكانية تصنيع قنبلة نووية؟
من فضلكم قارنوا، لم يجرؤ جورج دبليو بوش أن يذهب إلى العراق (2003)، بدعوى التخلّص من أسلحة الدمار الشامل "المزعومة"، إلا بعد أن استصدر قرارًا من مجلس الأمن، "مدّعيًا" أنه يعطيه التفويض اللازم لاستخدام القوّة "استنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق"، بل واستكمالًا "للشكل"، حرصت الولايات المتحدة الأميركية يومها على تشكيل ما سمّي "تحالفًا دوليًا" يضمّ أكثر من 40 دولة.
استمعوا إلى نتنياهو جيدًا وتمعّنوا في خرائطه وخططه "الشرق أوسطية" لتعرفوا ما ينتظركم
وعلى الرَّغم من الرأي في شرعيّة ما أقدم عليه جورج دبليو بوش يومها، إلا أنّ نتنياهو، الذي يعرف ويتصرّف على أنه فوق القانون، لم يحاول حتّى أن يفعل شيئًا من ذلك. أو بالأحرى لم يسمح له غرور القوّة (الذي سندفع يومًا ثمنه) بالتفكير في أنه بحاجة لذلك.
وبعد،
فربّما لا نعلم إلى أين ستنتهي الأمور في عالمٍ يجلس فيه أمثال دونالد ترامب في المكتب البيضاوي للبيت الأبيض، ولكنّنا نعلم يقينًا أنّ إسرائيل التي لم تترك مستشفًى إلّا ودمّرته في غزّة "المُحاصرة"، كرّست كل ما تملك من بروباغندا لتصوير سقوط صاروخ إيراني على مستشفى في بئر السبع على أنه "جريمة حرب" لا تُغتفر... لا جديد في الأمر فهذه هي إسرائيل التي تعتبر نفسها فوق القانون، وأنّ لها، بمنطق "شعب الله المختار" أن تفعل، وحدها، ما تشاء وقتما تشاء.
لا نعلم قطعًا إلى أين ستنتهي الأمور، ولكنّنا نعلم ثمن أن يعود "قيصر" إلى روما منتصرًا، أو بالأحرى منتشيًا، بعد غزوه لبلاد الغال (55 ق.م) فلا يكتفي بأكاليل النصر وأهازيجه، بل تدفعه غطرسة القوة إلى "التوسّع" هنا وهناك ليعصف بكل ما كان في طريقه، لا لسبب إلا تأكيدًا لهيمنته وسيطرته وقوّته. استمعوا إلى نتنياهو جيدًا، وتمعّنوا في خرائطه وخططه "الشرق أوسطية" لتعرفوا ما ينتظركم.
(خاص "عروبة 22")