من المُفارقات أنّ اشتعال الجدل توازى تقريبًا مع بدء الهجمات الإسرائيلية على إيران، ثم ردّ إيران بهجماتٍ مماثلةٍ في المقابل، ولا يزال تبادُل الضربات مستمرًّا بين الفريقَيْن الى لحظة كتابة هذه السطور، ومن الجائز عندما ترى النور أن يكون التصعيد هو سيّد الموقف، أو تكون وتيرة التبادل كما هي، أو تكون جهود الوساطة بصدد إنهاء الهجمات.
المُفارقة في الأمر أنّ تبادُل الهجمات كان يجري في كلّ حالاته؛ إمّا في القلب من أرضنا العربية حيث تقع إسرائيل، وإمّا على حافّتها الشرقية حيث تقع إيران. فكانت الصواريخ والمُسيّرات والطائرات تمرّ في الأجواء العربية في الذهاب وفي الإياب.
نجد أنفسنا أمام 22 موقفًا عربيًا في مواجهة قضية واحدة
كان هذا يحدث على الرَّغم من أنّ الدولتَيْن المُتصارعتَيْن ليستا عربيتَيْن، وعلى الرَّغم من أنّهما لا تحملان مشاعر طيّبة لنا كعرب، إذا جاز أن يُشار الى ما بين الدول بلغة المشاعر. وكان السؤال الأجدى بالطرح في "قضية الجامعة"، هو عن الطريقة التي يُمكن بها للجامعة أن تكون لسان حال العرب الجامع إزاء هجمات متبادَلة كهذه، بدلًا من أن تذهب كلّ عاصمة عربية الى التعبير عن رأيها في الصّراع بين الإسرائيليين والإيرانيين بطريقتها الخاصة، فنجد أنفسنا والحال هكذا أمام 22 موقفًا عربيًا في مواجهة قضيةٍ واحدة.
كان اللّافت في المشهد العربي إزاء المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية، أنّ "مجلس التعاون الخليجي" اجتمع على مستوى وزراء الخارجية، وأصدر إدانةً جماعيةً للعدوان الإسرائيلي على إيران. كانت الإدانة لافتةً لأنّ دول المجلس السِّت على وجه التحديد، كانت الأكثر تضرّرًا من سلوك إيران في الإقليم.
لكن جامعة الدول العربية، في المقابل، لم تعقد اجتماعًا من نوع اجتماع مجلس التعاون، وقد كان في مقدورها أن تفعل ذلك لو شاءت، خصوصًا أن اجتماع المجلس الخليجي جرى بتقنية الاتصال المرئي. فلم يكن وزراء الخارجية العرب في حاجةٍ للحضور الى القاهرة ليجتمعوا، ثمّ ليصدرَ عنهم موقف موحّد يفهم منه العالم أنّ للعرب رأيًا فيما يجري من حولهم، وأن موقفهم جماعي وموحّد، وأنّهم قادرون على أن يُبلْوروا موقفًا تجاه كلّ حدث يدعوهم إلى اتخاذ موقف.
القضية تبدأ بالميثاق الذي يحكم عمل الجامعة وتنتهي به
لماذا تفاعل مجلس التعاون سريعًا مع الحدث الإسرائيلي الإيراني الكبير، ولماذا عجزت الجامعة العربية، في المقابل، عن التفاعل المماثل؟... هذا هو السؤال الذي كان على المُتجادلين حول الجامعة وأمينها العام أن ينشغلوا به وأن يطرحوه، لأنّ المسألة ليست خاصةً بالحدث الإسرائيلي - الإيراني وحده، ولكنهّا تتصل بكلّ حدثٍ من نوعه قد يطرأ في المستقبل ويحتاج الى موقفٍ عربيّ يستجيب بسرعةٍ ولا يتخلّف عن الاستجابة.
وعلى الرَّغم من أنّ مجلس التعاون هو فرع والجامعة هي الأصل، بمعنى أنّ الدول الأعضاء في المجلس أعضاء في الجامعة، بينما عضوية الجامعة لا تعني بالضرورة عضوية المجلس، فإنّ ذلك لا يمنع مسار الأصل من أن يستفيد من تجربة الفرع، أو من الآلية التي تجعل الفرع فاعلًا وقادرًا على الحركة والتجاوب، بينما الأصل يبدو مُكبّلًا بما لا بديل عن التعامل معه بشجاعةٍ ومسؤوليةٍ عربيةٍ مشتركة.
القضية في هذا التعامل تبدأ بالميثاق الذي يحكم عمل الجامعة وتنتهي به، ولا مشكلة في أن يوضع الميثاق موضع مراجعة وتقييم لأنّه ليس قرآنًا، ولكن شرط أن تجلس كلّ عاصمة عربية على طاولة المراجعة والتقييم له، وهي عارفة أنّ مراجعته تتمّ لأجل مصلحةٍ عربيةٍ جامعة، وأنّ الميثاق إذا أخذ من سيادة الدولة العربية في بعض الأمور، فإنّ ذلك يتمّ لمصلحةٍ عربيةٍ أكبر وأشمل.
لسنا مدعوّين إلى اختراع العجلة لأنّها مخترَعة لدى الاتحاد الأوروبي
أعرف أنّ قصة إصلاح الجامعة ليست سهلة، لأنّ الاتحاد الأوروبي الذي يحلو للكثيرين منّا أن يقارنوا بين تجربته مثلًا وبين تجربة الجامعة العربية، لم يصبح اتحادًا فاعلًا لصالح أعضائه بين يوم وليلة، وإنّما استغرق وقته في الوصول إلى ما انتهى إليه. فلا شيء جعل تجربته تنضج في صورتها القائمة سوى أنّه بدأ ثم مضى في سبيله يبني على ما يتمّ، ولكنّ الجامعة في المقابل بدأت ثم لم تَشَأْ أن تمضيَ في سبيل التطوّر والنضج كما مضى هو، ولذلك، فلسنا مدعوّين إلى اختراع العجلة لأنّها مخترَعة لدى الاتحاد بالفعل.
لا وقت لدى الجامعة تُضيّعه، ولا وقت لدى العرب يُضيّعونه، لأنّ ما حول الجامعة أو حول العرب لن ينتظرها ولن ينتظرهم.
(خاص "عروبة 22")