بصمات

في الحاجة إلى مجتمع مدني عالمي زمن الحروب!

انتشرت، منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي، حركات من الاحتجاج كبيرة، ارتفعت في خضمّها شعارات ومطالب من طبيعة "جديدة"، مختلفة نسبيًا في خلفياتها ووسائلها عمّا كان معهودًا إلى حين عهدٍ قريب.

في الحاجة إلى مجتمع مدني عالمي زمن الحروب!

هي حركات احتجاجية مُرتّبة وذات قيادة ميدانية رصينة، غالبًا ما كنّا نعاينها بوسائل الإعلام المختلفة وبالمباشر الحي، لا سيما على هامش قِمَم الدول الصناعية الكبرى والمنتديات الاقتصادية والمالية الدولية. ما يُميّزها أمران اثنان:

ــ الأول: طبيعتها العالمية، إذ غالبًا ما يحجّ لمكانٍ أو أمكنةٍ مُحدّدةٍ، آلاف الشخصيات والمنظّمات المدنية الوطنية، للتعبير عن مطالب غالبًا ما تكون ضمن جداول أعمال أو مخرجات هذه القِمَم والملتقيات (دافوس، سياتل، واشنطن، نيس... إلخ).

ــ الثاني: الخاصّية المُتشعّبة والمُتباينة لمختلف المشارب "المُكوِّنة" لهذه الحركات، والمُلتحمة جنبًا إلى جنب من دون إقصاءٍ إيديولوجيّ أو رفضٍ عقائديّ أو تعصّبٍ فكريّ.

حركات فوق/وطنية موجهة ضدّ القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى التي استباحت ثروات الكوْن

هي حركاتٌ لم تنتفِ في صلبها التباينات الإيديولوجية أو المذهبية (بين ماركسي متشدّد، وليبيرالي متطرّف، وحركات نسائية، وفصائل للدفاع عن الأقليات، وفئات مطالبة بالحفاظ على البيئة... إلخ)، بل تعايشت على خلفيّة ضرورة مُناهضة العوْلمة، ومؤسّساتها وشركاتها مُتعدّدة الجنسيّات، ومن أهمية الحفاظ على التوازنات البيئية، ومن الحاجة إلى ضرورة استعادة المبادئ الديموقراطية التي استصدرها الماليّ من الاقتصاديّ واستصدراها مُجتمعَيْن من السياسيّ.

نحن مع هذه الحركات، إنّما إزاء صعود رأيٍ عامٍّ عالميّ، يرفع مطالب ذات بُعدٍ عالميّ ويدفع بجهة التنبيه إلى المخاطر التي تتهدّد الكون في واقع حاله وفي مستقبله.

ثم هي حركاتٌ لا مطالب فئوية خالصة لها، ولا تطلّعات لإدراك مآرب وطنية صرفة. إنّها حركات احتجاجية فوق/وطنية، موجهة ضدّ القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى التي استباحت ثروات الكوْن، وتحوّلت إلى "سلطاتٍ جديدةٍ" ترفع شعار البقاء للأقوى، حتى وإن كان في ذلك إفقار البلدان أو إبادة ساكنيها. هي ضدّ تسليع العالم و"تبضيع" الأخلاق والقيم.

نحن بالتالي إزاء ولادة مجتمعٍ مدنيّ عالميّ، بات يتوفّر على رأي عام عالميّ، يُناهض الاستصدار المُتزايد للثروات الكوْنية والاستهداف المُمنهج لخيرات البلدان، بالقوّة أو الترهيب أو بهما معًا.

تهديدات جماعية لا سبيل لتجاوزها إلا عبر العمل الجماعي المنظّم

هو مجتمعٌ يحمل بعض صفات المجتمعات المدنيّة المعهودة على المستويات القُطرية، لكنّه يوسّع من مجالها لتطال قضايا العالم برمّته. فالعوْلمة الليبيرالية تهدّد حاضر ومستقبل الأفراد والجماعات، وتُصادر من بين أيديهم حقّهم في الاختلاف والتعبير المواطناتي والحاكميّة السياسيّة التي أضحت رهينة حاكميّة المال والأعمال.

بالتالي، فالمجتمع المدني العالمي المُتشكّل تدريجيًا، إنّما تتراءى له التهديدات المرفوعة في وجه مستقبل الكون، كونها تهديدات جماعية لا سبيل لتجاوزها إلّا عبر العمل الجماعي المنظّم. هو لا يقتصر في فعله على الاحتجاج والتظاهر، على التنديد والتحذير، بل يتعدّى كل ذلك إلى مستوى المُبادرة والاقتراح. فاقترح ضريبةً على الشركات المُضارباتية الكبرى، واقترح ضريبةً على ملوّثي البيئة والمُناخ، واقترح تشكيل حكامة دولية تتجاوز منطق الفيتو الذي رهَن فعل الأمم المتحدة ووظيفتها.

إنّ نقط قوّة ذات الحركات إنّما تكمن في تحوّلها من مجرّد كونها حركات احتجاجية، إلى بنكٍ للاقتراحات والمُبادرات الفعّالة، لا سيما وقد باتت ترتكن إلى وسائط التواصل الاجتماعي بمختلف روافده.

إنّ ما وقع في غزّة، منذ حوالى عامَيْن، هزّ العالم أجمع، وأفرز رأيًا عامًّا عالميًّا منقطع النظير. إذ أبانت المظاهرات الضخمة التي عمّت كلّ ربوع الكوكب، عن التهديدات الكبرى التي باتت تمثّلها إيديولوجيا القتل، المُنفلتة من كلّ عقال والرّامية إلى إبادة شعبٍ وترحيله قسريًا عن أرضه.

وأبانت أيضًا عن ترهّل المُنظّمات الدولية ومُصادرة مكامِن المبادرة والقرار من بين أيديها، من لدن بلدان لم تعد تُعير قيمةً للقيم أو للأخلاق أو للحسّ الإنساني الفطري البسيط. وأبانت فضلًا عن ذلك، عن تراجع الاحتكام لمبادئ القانون الدولي المُنظِّم لحقوق الدول والشعوب.

يجب البناء على الرأي العام لإقامة مجتمع مدنيّ عالميّ من أجل مواجهة منطق "فرض السّلام بالقوة"

إنّ ما أقدمت عليه إسرائيل هو الذي وجد تعبيراته في المظاهرات التي عمّت المعمور، ورفعت شعارات الحقّ في الحياة، وفي العلاج وفي الغذاء كحقوقٍ أوليةٍ لا بدّ منها. ثم شعارات الحقّ في سيادة البلدان وعدم استهدافها بأيّ وجهٍ من الوجوه. ثم شعارات العيش المشترك التي باتت تحت رحمة التلوّث وهجانة الأغذية المُحوّلة جينيًّا والتجارة بأعضاء البشر وبيع السلاح.

لقد خلقت غزّة رأيًا عامًّا عالميًا حقيقيًّا، وأعادت للنقاش فكرة المُجتمع المدني العالمي الذي كان منذ مدةٍ قريبةٍ يُعقد على هامش المنتديات الاقتصادية العالمية في دافوس وبورتو أليغري ونيس وغيرها. يجب بالتّالي البناء على الرأي العام ذاتِه لإقامة مجتمعٍ مدنيّ عالميّ، من أجل مواجهة الإيديولوجيات الشعبويّة ومنطق "فرض السّلام بالقوة" الذي يدافع عنه دونالد ترامب ويدفع به. أمّا شكله وبنيته وبرنامجه، فذاك مبحث آخر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن