لا أَقْصِدُ بِاستِخدامِ مُصطَلَحِ ’’الذَّكائِيَّةُ الاصطِناعِيَّةُ‘‘ (Artificial Intelligibility) بَدَلًا من التَّعبيرِ المُعْتَمَدِ "الذَّكاءُ الاصطِناعيُّ" (Artificial Intelligence)، إِحلالَ مُفْرَدَةٍ مَحَلَّ أُخْرى، فالأَمْرُ لَدَيْنا يَتَعَدّى المَسْأَلَةَ اللُّغَوِيَّةَ إلى مُحاوَلَةِ تَوصيفٍ أَكثَرَ دِقَّةً وَعُمْقًا لِلتَّحَوُّلِ الجاري لِنِظامِ الذَّكاءِ الاصطِناعيِّ كَوْنُهُ آلَةً ذَكِيَّةً إلى كِيانٍ يَحمِلُ قُدُراتٍ ذِهنِيَّةً فائِقَةً مُستَقِلَّةً عَنِ العَقلِيَّةِ الإِنسانِيَّة. ما يُمَثِّلُ، في ظَنّي، خُطْوَةً فِكْرِيَّةً في إِطارِ فَهْمِ تَحَوُّلاتِ العَلاقَةِ ــ التي تَتَوَطَّدُ بِمُرورِ الوَقْتِ ــ بَيْنَ الإِنسانِ وَالآلَةِ في العَصْرِ الرَّقمِيّ.
إِنَّ مُصْطَلَحَ ’’الذَّكائِيَّةُ الاصطِناعِيَّةُ‘‘ يَأْخُذُ في الاِعتِبارِ ما طَرَأَ على النِّظامِ الذِّهنيِّ الذَّكيِّ من تَطَوُّرٍ طَفْريٍّ، وَمن ثَمَّ يُرَكِّزُ على الخاصِّيَّةِ أَوِ القُدْرَةِ التي تَتَمَتَّعُ بِها الآلَةُ على المُعالَجَةِ، وَالتَّعَلُّمِ، وَالتَّنَبُّؤِ، وَاتِّخاذِ القَراراتِ ضِمْنَ إِطارٍ من الخَوارِزْمِيّاتِ المُصَمَّمَةِ صِناعِيّا. وَمن ثَمَّ جَعلَها تُفارِقُ الحالَةَ الإِنسانِيَّة. هَذا التَّحَوُّلُ اللِّسانِيُّ يُحَوِّلُ الاِنتِباهَ لِنِظامِ الذَّكاءِ الاصطِناعيِّ من كَوْنِهِ آلَةً ذَكِيَّةً في خِدْمَةِ الإِنسانِ إلى كِيانٍ لَدَيْهِ قُدُراتُهُ الفائِقَةُ لِبَلْوَرَةِ بُنْيَةٍ مَعرِفيَّةٍ مُستَقِلَّةٍ عَن تِلكَ الإِنسانِيَّة.
الأَمْرُ الذي يَدفَعُنا، بِالضَّرورَةِ، إلى تَأَمُّلِ العَلاقَةِ بَيْنَ الإِنسانِ وَالآلَةِ/التِّقْنِيَّةِ من مَوضِعٍ آخَرَ: مَوضِعِ النِّدِّيَّةِ التَّفاعُلِيَّةِ؛ حَيْثُ تَتَشابَكُ المَسافاتُ وَتَتَقاطَعُ الحُدودُ وَتَتَنافَسُ الأَدْوارُ بَيْنَ البَشَريِّ الطَّبيعيِّ وَالآليِّ الاصطِناعيِّ في الفَضاءِ الرَّقمِيّ. في هَذا المَقامِ، يَحِقُّ لَنا البَحْثُ حَوْلَ طَبيعَةِ النِّدِّيَّةِ التَّفاعُلِيَّةِ المُحتَمَلَةِ بَيْنَ العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ وَبَيْنَ ’’الذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّة‘‘. هَل سَتَكونُ مُتَناغِمَةً وَمُتَصالِحَةً وَمُعَمِّرَةً أَم سَتَكونُ مُتَنافِرَةً وَمُتَخاصِمَةً وَمُدَمِّرَةً؟ قَبْلَ الإِجابَةِ رُبَّما يَكونُ من المُفيدِ إِلْقاءُ نَظْرَةٍ على طَبيعَةِ كُلٍّ من العَقلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ من جِهَةٍ وَ"الذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّة" من جِهَةٍ أُخرى...
ذاتٌ رقمية مستقلة أصبحت حاضرة مقابل الذات الإنسانية وحتى الآن تتساوى احتمالات التناغم بينهما مع احتمالات التنافر
بِالنِّسبَةِ إلى العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّة؛ فَتُعَدُّ مَنْظومَةً مُعَقَّدَةً يَتَفاعَلُ فيها الوَعْيُ، وَالانْفِعالاتُ، وَالقُدْرَةُ على التَّقْييمِ الذِّهنيِّ وَالأَخلاقِيّ. وَمن ثَمَّ يَنْطَلِقُ هَذا التَّفاعُلُ وَيَتَشَكَّلُ إِدراكُهُ لِلعالَمِ ــ عَبْرَ الزَّمَنِ ــ في ضَوْءِ: المَعرِفَةِ المُكْتَسَبَةِ، وَالتَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ، وَالتَأَمُّلِ الوِجْدانيِّ/الذِّهْنيِّ، وَالتَّدَبُّرِ الفِكرِيّ. وَيَنتُجُ عَن هَذا التَّفاعُلِ تَبَلْوُرُ الخِبْرَةِ المُتَراكِمَةِ التي تَكونُ قادِرَةً ــ في الأَخيرِ ــ على دَفْعِ الإِنسانِ إلى اتِّخاذِ قَراراتٍ ضِمْنَ سِياقاتٍ غايَةٍ في التَّعقِيدِ.
أَمّا "الذَّكائِيَّةُ الاصطِناعِيَّةُ"؛ فَإِنَّها، في ظِلِّ تَطَوُّرِها الطَّفْريِّ، باتَت قادِرَةً على أَنْ تَحْظى بِثِمارِ التَّراكُمِ الإِنسانيِّ في "خَطْفَةِ زَمَنٍ بِضَغْطَةِ زِرٍّ"، وَفي كُلِّ حُقولِ المَعْرِفَةِ في الوَقْتِ ذاتِه. وَذَلِكَ بِفِعْلِ خَصائِصِها الفائِقَةِ التي تَضَعُها خارِجَ المُقارَنَةِ مَعَ العَقلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ ذاتِ التَّراكُمِ المَعْرِفيّ ــ التَّخصُّصيِّ في الأَغْلَبِ وَالتَّدرُّجيِّ ــ المُتَحَصِّلِ عَبْرَ الزَّمَن.
في ضَوْءِ ما سَبَقَ، يُمكِنُ القَوْلُ إِنَّ كُلًّا من العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ وَالذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّةِ - في الوَقْتِ الرّاهِنِ، بِالمَعْنَى الذي طَرَحْناهُ مَفْهومِيًّا من جانِبٍ، وَفي ضَوءِْ المُمارَسَةِ العَمَلِيَّةِ من جانِبٍ آخَرَ - قَد أَصبَحا يُمَثِّلانِ قُطْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: الأَوَّلُ قائِمٌ على المَعْرِفَةِ، وَالتَّجْرِبَةِ، وَالمَشاعِرِ، وَالقِيَمِ، وَالإِبْداعِ، وَكُلُّهَا عَناصِرُ لا تُكْتَسَبُ مَرَّةً واحِدَةً وَإِنَّما عَبْرَ الزَّمَن. وَالثّانِي قائِمٌ على التَّحْليلِ الدَّقيقِ، وَالكَفاءَةِ، وَالقُدْرَةِ الحِسابِيَّةِ لِاستيعَابِ الحَصيلَةِ المَعْرِفيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ التي تَمَّ اختِبارُها وَتَراكُمُها على ظَهْرِ الكَوْكَبِ وَذَلِكَ في زَمَنٍ خَاطِف. ما يَعني أَنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ وَالذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّةِ سَوْفَ تَتَعَرَّضُ ــ حَتْمًا أَرَدْنا أَوْ لَمْ نُرِدْ ــ إلى اختِبارٍ: التَّناغُمِ ــ التَّنافُرِ، المُصالَحَةِ ــ الخُصومَةِ... ذَلِكَ لِأَنَّ ذاتًا رَقْمِيَّةً مُسْتَقِلَّةً قَدْ أَصْبَحَت حاضِرَةً مُقابِلَ الذّاتِ الإِنسانِيَّة. وَظَنّي، وَحَتَّى الآنَ، أَنَّ احْتِمالاتِ التَّناغُمِ تَتَساوَى مَعَ احتِمالاتِ التَّنافُر. إِذْ يَتَحَقَّقُ التَّكامُلُ المَعْرِفِيُّ بَيْنَ نِتاجاتِ العَقلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ وَالذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّةِ، كَذَلِكَ بَيْنَ القُدُراتِ البَشَرِيَّةِ التَّقديرِيَّةِ وَالإِمْكانياتِ الخَوارِزْمِيَّةِ الحِسابِيَّة. وَإِنْ كانَ ما سَبَقَ لَمْ يَحُلْ دونَ التَّنافُرِ بَيْنَهُما الذي يَتَجَلّى، مَثَلًا، في حُلولِ الذَّكائِيَّةِ الاصطِناعِيَّةِ مَحَلَّ العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ في مَوَاقِعِ العَمَلِ المُختَلِفَة.
الذكاء الاصطناعي يفتح أفقًا رحبًا لدعم العقل الإنساني شريطة التوازن بما يحمي مركزية الإنسان ويضمن مواطنة رقميّة آمنة
وَيَبدو لِي أَنَّ الإِشْكالِيَّةَ التي نَحْنُ بِصَدَدِها هِيَ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْظيمُ التَّناغُمِ قَدْرَ الإِمْكانِ وَالحَيْلولَةُ دونَ حُدوثِ التَّنافُرِ (وَهِيَ إِشكالِيَّةٌ تُضافُ إلى مَجموعَةِ الإِشكالِيَّاتِ الإِنسانِيَّةِ الوُجودِيَّةِ وَالمَصيرِيَّةِ التي أَثرْناها حَوْلَ زَمَنِ الذَّكاءِ الاصطِناعِيِّ؛ وَفي هَذا المَقامِ مُراجَعَةُ مَقالاتِنا في "عُروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني، الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني، هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟، العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي، الإبداع الإنساني زمن الذكاء الاصطناعي، الثُّنائِيّاتُ الإِنسانِيَّةُ زَمَنَ الذَّكاءِ الاصطِناعِيّ).
وَبَعْدُ، إِنَّ الذَّكاءَ الاصطِناعِيَّ يَفتَحُ أُفُقًا رَحْبًا لِدَعْمِ العَقْلِ الإِنسانِيِّ، وَلا شَكَّ، شَريطَةَ أَلّا يُفَرِّطَ الإِنسانُ - المُواطِنُ في مُقَدَّراتِهِ العَقْلِيَّةِ الجَدَلِيَّةِ الطَّبيعِيَّةِ لِصالِحِ الذَّكائِيَّةِ الحِسابِيَّةِ/الخَوارِزْمِيَّةِ الاصْطِناعِيَّةِ... وَأَلّا يَسْمَحَ لِلرَّغَباتِ الاحْتِكارِيَّةِ لِلتِّقْنِيّاتِ الرَّقمِيَّةِ أَن تُعَطِّلَ التَّناغُمَ... وَأَن يَعْمَلَ على التَّوازُنِ بَيْنَ البُنْيَةِ المَعْرِفِيَّةِ العَقْلِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ والبُنْيَةِ المَعْرِفِيَّةِ الذَّكائِيَّةِ الاصْطِناعِيَّةِ بِما يَحْمي مَرْكَزِيَّةَ الإِنسانِ وَتَجْرِبَتَهُ الإِنسانِيَّةَ التاريخِيَّةَ الحَيَّةَ وَيَضمَنَ مُواطَنَةً رَقمِيَّةً آمِنَة.
(خاص "عروبة 22")

