"الرؤية الاستراتيجيّة" الغائبة في العالم العربي!

تطرح ردود الفعل العربية تجاه المُستجدّات المُتسارعة إقليميًّا ودوليًّا عديدُ الأسئلة بخصوص الأسباب العميقة التي تجعل العالم العربيّ أسير دائرة الانفعال والعشوائية والارتجال، ممّا أفقده الفعّالية المطلوبة وروح المبادرة. ويبدو أنّ غياب الرؤية الاستراتيجية من عوامل ذلك القصور والخلل الهيكلي المُزمن.

لا تعني الرؤية الاستراتيجيّة مجرّد التخطيط القائم على المأسَسة، أو رسم سيناريوات عدّة مُحتملة لمختلف المراحل القريبة والمتوسّطة والبعيدة، وإنّما كذلك العمل على تحقيق أهدافٍ مُحدّدةٍ بحسب الإمكانيات المُتاحة وتطويرها مع مراعاة مختلف المتغيّرات الجيوستراتيجية المحتملة.

ولئن كانت كلمة "استراتيجيا" تُحيل إلى "التكتيك" في المجال العسكري الذي باشر العرب عملية تحديثه مُبكّرًا منذ تجربة محمد علي باشا في مِصر، فإنّ غياب الرؤية الاستراتيجيّة يُعدّ من الاختلالات البنيوية في الحالة العربية على مختلف المستويات داخليًا وخارجيّا.

تفرض الأوضاع العربية الرّاهنة ضرورة تجاوز الارتجالية والعشوائية باعتماد رؤية استراتيجيّة حقيقيّة

يتجلّى غياب الرؤية الاستراتيجية على الصعيد الداخلي في العجز المُتفاقم خلال إدارة مختلف الأزمات وتذبذب الخيارات لدرجة عدم القدرة على مواكبة التحوّلات السوسيوثقافية التي تشهدها المُجتمعات العربية منذ العقد الأخير من القرن الماضي. وهو ما فاقم أشكال التوتّر والاحتقان بحكم أنّ المنطق السّائد لا يختلف كثيرًا عمّا كان عليه الأمر في حقبتَيْ الستينيّات والسبعينيّات لا سيما ما يخصّ طبيعة علاقة السلطة بالمجتمع المدني ومختلف الفاعلين الاجتماعيين، وعلاقاتِ النّخب ببعضها وبالدولة والمجتمع والغرب.

أمّا على الصعيد الدولي، فيكفي رصد ردود الفعل العربية منذ الحرب العراقية - الإيرانية خلال ثمانينيّات القرن العشرين وإلى اليوم، لملاحظة مدى الارتجال المهول والتذبذب البَيِّن في ما يخصّ مواقف الدول العربية وقراراتها. وينسحب هذا المُعطى كذلك على جامعة الدول العربية وبقيّة الهياكل المُشكِّلة لها. وهو ما كلّف العالم العربي انكساراتٍ وهزائمَ متلاحقة أفضت به إلى مرتبة الدّونية سواء مع القوى الدولية أو حتّى مع القوى الإقليمية التي يفوقها العالم العربي ثرواتٍ طبيعيةً وبشريّة!.

لا مفرّ من تعزيز "مراكز التفكير والخبرة" في المنطقة العربية في مختلف المجالات المُساعدة على صياغة الرؤية المصيريّة

تفرض الأوضاع العربية الرّاهنة والسياق الدولي - الذي توحي جلّ مؤشّراته إلى إعادة تشكيلٍ جديدٍ للمنطقة - ضرورة تجاوز الارتجالية والعشوائية في معالجة مختلف القضايا باعتماد رؤيةٍ استراتيجيّةٍ حقيقيّة. وتقتضي تلك الرؤية عدم الاقتصار على وضع تصوّرات أو مُخطّطات تبقى غالبًا حبرًا على ورق، وإنّما لا بدّ من وضع رهاناتٍ وأهدافٍ دقيقةٍ تُفضي إلى نتائجَ عمليةٍ ملموسةٍ، من دون إغفال مُراعاة التوازن مع الإمكانيات الذّاتية المُتاحة والإكراهات الخارجية المفروضة.

لا شكّ أنّ العالم العربي قادر على صياغة رؤيته الاستراتيجية الموسَّعة في صورةٍ تُوَفِّر شروط تَحَقُّقِهَا. وهي شروطٌ ممكنةٌ في مُجملِها بالنّظر إلى إمكانيات العرب المُتعدّدة، إذا ما توفّرت إرادة سياسية جادّة في إحداث تغييراتٍ كبرى. ومن أهمّ تلك الشروط العمل على تجسير الفجْوة الفاصلة بين النّخبة السياسية الفاعلة والنّخبة المفكّرة الحرّة المسكونة بآلام مجتمعاتها، والمُؤمنة بقدرة الذّات العربية على التجدّد والتطوّر والانبعاث.

لا يمكن الحديث عن رؤيةٍ استراتيجيةٍ في حالة استمرار تشتّت الجهود الفردية والنرجسية المُوجِّهة لها. لذا لا مفرّ من تعزيز مكانة "مراكز التفكير والخبرة" (Think Tanks) في المنطقة العربية في مختلف المجالات المُساعدة على صياغة تلك الرؤية المصيريّة. فمن شأن تعدّد الخبرات أن يساعد على تنويع زوايا النظر في مواجهة التحدّيات القائمة. وهو ما يُضفي طابعًا مؤسّساتيًا على الحلول والسُبل المقترحة لتجاوزها.

التعليم من أهمّ البنى الأساسية ما يستدعي وضع سياسة تربوية وثقافية استراتيجية نابعة من رحم الواقع العربي

لا جدال في أنّه ضمن ذلك المنطق المؤسّساتي نفسه تتوفّر فرصٌ أكبر لصياغة مشروعٍ وطنيّ جامعٍ له آفاق موسّعة للتكامل أو الانصهار ضمن مشروعٍ عربيّ أكمل وأرحب. وتُعدّ مراجعة سلسلة الخيبات التي عرفتها جلّ التجارب العربية في هذا المجال حقلًا مُهمًّا لتجنّب تكرار الأخطاء نفسِها لا سيما في مستوى رفع سقف التوقّعات بالشعارات الجوْفاء الناجمة عن مُفارقة عدم التجانُس بين الأهداف المُعلنة والآليات المتاحة.

لقد آن الأوان لتجاوز النظرة التّجزيئية للتعليم والتربية والثقافة والاقتصاد. إذ لا بدّ من التركيز على تقاطعها وتشابكها. كما أنّه لا غنى عن النّظر إلى التعليم بوصفه من أهمّ البنى الأساسية. وهو ما يستدعي وضع سياسةٍ تربويةٍ وثقافيةٍ ذات أبعادٍ استراتيجيةٍ متعدّدةٍ تكون نابعةً من رحم الواقع العربيّ، وبمنأى عن إملاءات المانحين الدوليين وأجنداتهم المسكوت عنها. ذلك أنّه يستحيل تحقيق الرؤية الاستراتيجيّة، سواء في المجال التعليمي أو غيره من المجالات، في مُناخ التبعية المُطلقة والوصوليّة المُستفحلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن