تحرُّك الحكومة المصرية لإزالة شرائح كاملة من جبانات القاهرة التاريخية، يمضي بسرعة لا تسمح بتسجيل حجم الخسائر التي تُمنى بها الذاكرة الجمعية، فكلّ شيء تحت القصف، ومن أسف أنّ هذا يتمّ لصالح مشروعات طرق وكباري، يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بمشروعات أقلّ ضررًا بنسيج القرافة العمراني، و"القرافة" مصطلح يُطلق على جبانة القاهرة، ويعود إلى قبيلة يمنية استوطنت هذا المكان منذ دخول العرب مصر.
ما تراه من عمل محموم لهدم المقابر سيؤدّي لا محالة إلى استئصال جزء من ذاكرة المصريين، وطمس لبعض هويتهم المعمارية ممثّلة في مقابر تحتوي على طبقات من الفنون العربية الإسلامية، التي لا تكاد تراها في مكان واحد في مدينة عربية أو عالمية أخرى، كيف لا ونحن نتحدّث عن منطقة مكوّنة من طبقات تاريخية على مدار 1400 عام، وكان يُفترض أن يتمّ التعامل معها بحرص بالغ لا استهتار مدمّر.
تضمّ الجبانات مقابر شخصيات مهمّة على مستوى التاريخ المصري والعربي الحديث
التراث الذي تضمّه قرافة الشافعي والسيّدة نفيسة، والذي يحكي قصّة مصر وفصولها التاريخية المتتالية على مدار مئات الأعوام، غير مدروس ولا محصور بشكل جيّد بعد، في وقت تعطي الحكومة المصرية إشارة صريحة بأنها غير معنيّة بحماية تراث يخصّ مصر والعرب، فهنا في جنبات هذه الأضرحة تجد نماذج فنية عالية المستوى للعمارة المصرية الإسلامية التي تتماشى مع تراث المكان الذي يعود بعض معماره إلى عصر سلاطين المماليك.
تضمّ الجبانات مقابر شخصيات مهمّة على مستوى التاريخ المصري والعربي الحديث، أسماء بحجم أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وطه حسين، ولا تنسى الذاكرة نقل رفات الأديب والقاص يحيى حقي منذ أشهر قليلة من منطقة نُكبت بالهدم الحكومي، كل ذلك يُعامل بإهمال لا يليق!.
إذا استعرضنا نموذجًا يبيّن مدى التنوّع التاريخي في الجبانات، فأمامنا ضريح آل العظم، والمعروف باسم حوش فاطمة برلنتي هانم، والذي يضمّ رفات السياسي السوري، حقي العظم أوّل حاكم لدولة دمشق بين عامي 1920 و1922، كما تضمّ المقبرة ضريح رفيق العظم، وهو أحد الكتّاب والمؤرّخين المعدودين في مصر في الربع الأول من القرن العشرين، إذ شارك بكتب عدّة منها "البيان في أسباب التمدّن والعمران".
هذا الضريح والواقع في قلب القرافة، ويضمّ عائلة سورية فاعلة في المشهد السياسي والثقافي العربي بين الشام ومصر، مهدّد بالإزالة، على الرغم من أنه دليل حيّ على التواصل العربي الثقافي والأدبي بلا أيّ افتعال، ما يظهر بوضوح في حالة عبد الرحمن الكواكبي، ابن مدينة حلب، وصاحب كتابَي (أم القرى) و(طبائع الاستبداد)، والمدفون في جبانات القاهرة أيضًا.
"القرافة" كتاب تاريخ شامل مبثوثة صفحاته على جدران الأضرحة وشواهدها
هنا تتحوّل القرافة إلى سجلّ تاريخي شاهد على التواصل بين العرب، الذي ربما يلخّصه شاهد قبر حديث لرجل سوداني دُفن بجوار زوجته المصرية خلف قبّة ضريح الإمام الشافعي القرشي؛ القادم من العراق إلى مصر.
لا تقتصر بدائع القرافة على هذا الجانب الخاص بالأهمية الأدبية لمن دُفن فيها، فهي متحف مفتوح لفنّ الخط العربي بصورة غير معروفة في أيّ مكان آخر، إذ تنفرّد بنماذج من أعمال خطّاطين بحجم عبد الله بك الزهدي، الذي تمّ هدم قبره قبل شهور قليلة! فضلًا عن عشرات النماذج الفذّة لمعماريين مصريين وأجانب تباروا في بناء أضرحة ذات طرز معمارية فريدة.
تكتسب القرافة إذن جزءًا من فرادتها في كونها كتاب تاريخ شامل؛ مبثوثة صفحاته على جدران الأضرحة وشواهدها، بأشكال وصيغ تفوق الحصر، تضمّ العديد من الفنون الإسلامية من فنّ الخط العربي، مرورًا بالعمارة ذات الطراز المصري المملوكي، وكلّها تحتاج إلى رعاية خاصة تحافظ على هذا النسيج العمراني الفريد الذي يعود في بعض ملامحه إلى تاريخ دخول العرب لمصر قبل 14 قرنًا.
على الحكومة المصرية أن تتحمّل مسؤوليّتها التاريخية عند عبثها بهذا التراث المركّب، فلا تتعجّب أن يكون حكم الأجيال الحالية والمقبلة عليها هو الإدانة بجريمة تبديد التراث المصري، جريمة لم يجرؤ أيّ احتلال على أن يفعلها في مصر.
(خاص "عروبة 22")