الحديث هنا عن مفارقاتٍ أو مستجدّاتٍ نعاينها على هامش اندلاع الحرب الإيرانية - الإسرائيلية، ولو عدنا إلى موقف الدول العربية ممّا قام به الراحل صدّام حسين عندما قصف إسرائيل بصواريخ "سكود" في سنة 1991 - سابقة عربية حينها - كان الشارع العربي على قولٍ واحدٍ في تأييد الرئيس العراقي. والأمر نفسه في حقبةٍ مضت، مع الحرب التي خاضها "حزب الله" في سنة 2006 ضد الكيان نفسه، حتّى أنّ تلك الأحداث، حظيت بمواكبةٍ فكريةٍ من باب التنويه والإشادة، بل صدرت أعمالٌ عدّة في هذا السياق، من قبيل كتاب "حزب الله: من التحرير إلى الردع" لعبد الإله بلقزيز (2006)، تأسيسًا على مرجعيةٍ يساريةٍ - قوميةٍ، أو كتاب "الحداثة والمقاومة" لطه عبد الرحمن (2007)، تأسيسًا على مرجعيّةٍ صوفيّةٍ، ضمن أعمالٍ أخرى.
أقلام يسارية تنتقد المشروع الإيراني لأسبابٍ عدّة منها ما هو مرتبط بموقف طهران من الوحدة الترابيّة للمملكة المغربية
في تلك الحقبة، عرفت الساحة ظاهرة "الحوار القومي ــ الإسلامي"، وكان يُقصَد بها الحوار بين التيّارات القوميّة والتيّارات الإسلامية الحركية، ومن الصعب إحصاء عدد المؤتمرات التي نُظّمت في هذا السياق، في العديد من الدول العربية. وكان الصوت القومي من جهةٍ، والصوت الإسلامي الحركي من جهةٍ ثانيةٍ، يتحدّث بالنّبرة نفسها بخصوص التفاعل مع مثل هذه الأحداث، طالما تتعلّق بشنّ الحرب ضدّ إسرائيل، قبل أن نعاين لاحقًا تراجعًا أو أفولًا للمشروع، وانقسام المِحور، أو عودة كلّ تيار لقواعده، وبالتالي أخذ مسافة من أي ارتباطاتٍ فكريةٍ أو تنظيميةٍ أو سياسيةٍ مع التيار المنافس، لنُعاين اليوم، انقساماتٍ حتّى في التيّار نفسه.
في الحالة المغربية، هناك تباينٌ في مواقف اليسار من الحرب الإيرانية - الإسرائيلية، وهو التباين الذي أفرز خطاب التخوين والتخوين المضادّ، حيث نجد أقلامًا يساريةً تنتقد السياسة الإسرائيلية، بخاصّة بعد مجازر ما بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنّها تنتقد أيضًا المشروع الإيراني، لأسبابٍ عدّة. للمفارقة، منها ما هو مرتبطٌ بطبيعة المشروع الإيراني التوسّعي، ومنها ما هو مرتبطٌ بموقف طهران من الوحدة الترابيّة للمملكة المغربية، حتّى أنّ العلاقات المغربية - الإيرانية حاليًا تمر في أزمةٍ ديبلوماسيةٍ بسبب هذا الموقف تحديدًا.
رموز "إخوانية" في الصف الإيراني مقابل أسماء "إخوانية" يتقاطع موقفها مع موقف السلفيين ضدّ المشروع الإيراني
ومقابل هذا الموقف اليساري، نُعاين موقفًا مغايرًا، يؤيّد إيران من دون تحفّظ، داعيًا إلى عدم خلط الأوراق بخصوص موقفها المعادي للوحدة الترابية سالف الذكر. ونجد في هذا التيار ما يُصطلح عليه بـ"يسار الإخوان"، أي الأقلام أو الأصوات اليسارية المتحالفة مع الخطاب الإسلامي الحركي لأسبابٍ تستحق الاشتغال البحثي، وهذا موضوع يكاد يُصنَّف في خانة التابوهات إن صحّ التعبير، هذا إن لم يكن لا مُفكرًا فيه.
نُعاين التباين نفسه في مواقف الإسلاميين، سواء تعلّق الأمر بالسلفيين أو التيّار الإخواني: مع التيار الأول، انتشر خطاب "اللهمّ اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين"، عند نسبةٍ من السلفيين، بحكم العداء العقائدي التاريخي بين السُنّة والشيعة. لكن نُعاين رموزًا سلفيةً مضادّةً في موقفها من الحرب نفسِها، تدعو إلى الابتعاد عن قلاقل هذا العداء التاريخي، والوقوف وراء إيران في حربها ضد الكيان.
يستحضر الرأي العام ما قامت به ميليشيات موالية لما كان يُصطلح عليه بـ"الهلال الإيراني" ضدّ الشعبَيْن اليمني والسوري
الأمر نفسه مع الأقلام "الإخوانية"، إذ نُعاين العديد من الرموز "الإخوانية" التي تقف في الصف الإيراني، من قبيل أحمد الريسوني من المغرب، والمختار الشنقيطي من موريتانيا، مقابل أسماء من المشروع "الإخواني" أيضًا، لكنّها تبنّت موقفًا مضادًّا، من قبيل الثنائي عبد الكريم بكّار من سوريا وعليّ الصّلّابي من ليبيا، ويتقاطع موقفها هنا مع موقف السلفيين ضدّ المشروع الإيراني.
في سنة 1987، أُنتجت أولى حلقات مسلسل "رأفت الهجان"، الذي صدر في ثلاثة أجزاء، ولو عدنا إلى موقف الشارع المصري والعربي من أحداث المسلسل، لن نجد فوارق كبيرة من رأي الشارع العربي بخصوص الموقف من النظام المصري. لكن بعد أحداث 2011 – 2013، سوف نُعاين تحوّلًا في موقف الشارع نفسه، بخاصّة بعد خروج نسبةٍ كبيرةٍ من الإسلاميين من مقام الإجماع، والانخراط في حملاتٍ نقديةٍ ضدّ مصر، وما زال الأمر كذلك اليوم.
نتائج التحوّلات تصبّ في مصلحة الموقف الإسرائيلي لأنّه يُعاين انقسامات جلية في مواقف الشارع العربي
بعض الأحداث في المنطقة مفيدةٌ لكي نقرأ أسباب التحوّلات أعلاه. على سبيل المثال، مواقف الرأي العام في المغرب واليمن وسوريا من النظام الإيراني في مرحلة ما بعد 2011 مختلفةٌ عن المواقف نفسها قبل ذلك التاريخ، لأسبابٍ لم تعد مجهولة عند ذلك الرأي العام، وإن كانت في الحالة المغربية تهمّ موقف طهران من ملف الوحدة الترابية. لكن في الحالتَيْن اليمنية والسورية، يستحضر الرأي العام في البلدين ما قامت به ميليشياتٌ محلية وغير محلية، مواليةٌ لما كان يُصطلح عليه من قبل بـ"الهلال الإيراني"، ضدّ الشعبَيْن اليمني والسوري.
المفارقة في تأمّل نتائج هذه التحوّلات، أنّها تصبّ بشكلٍ أو بآخر في مصلحة الموقف الإسرائيلي، لأنّه يُعاين انقساماتٍ جليةً في مواقف الشارع العربي من هذه الحرب. وبعضها للمفارقة، مؤسَّسٌ على مرجعيةٍ دينيةٍ، وهي المرجعية الدينية التي لم تفقه بعد، أنّها تكاد تكون أداةً وظيفيّةً بين أيدي قوى محلّية أو إقليمية أو دولية، وهذا موضوعٌ آخر.
(خاص "عروبة 22")