فلسطين... القضية والبوصلة

إسرائيل... دولة في الملجأ

من بين كل الصور التي اجتاحت الإعلام العالمي خلال الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل، تَصدَّرت العناوين والتقارير مشاهد: "مواطنون إسرائيليون يهرولون إلى الملاجئ، مذعورون من وابلٍ غير مسبوقٍ من الصواريخ والطائرات المُسيّرة". لم يكن ذلك مجرّد مشهدٍ عابرٍ في لحظة تصعيد عسكري، بل نافذة تُطلّ منها على حقيقةٍ أعمق: إسرائيل ليست فقط مجتمعًا يختبئ تحت الأرض في أوقات الحرب، بل دولةٌ بأكملها تعيش في ملجأٍ دائم... سياسي، وعسكري، ونفسي.

إسرائيل... دولة في الملجأ

لم تعُد الملاجئ منشآتٍ طارئةً تُستخدم عند الحاجة، بل تحوّلت إلى جزءٍ من البنية التحتية الأساسية، بل ومن الهوية الوطنية ذاتها. كلّ بيتٍ جديدٍ يُبنى وفقًا لمواصفات تتضمّن "غرفة محصّنة"، كلّ مدرسة مزوّدة بمأوى، كلّ تجمّع سكني يحتفظ بخريطة توضح كيفية الوصول إلى أقرب ملجأ. حتّى تطبيقات الهاتف النقّال التي تُبلغ المستخدم بمكان أقرب مأوى باتت أكثر استخدامًا من تطبيقات الطقس.

هذا الانتشار الكثيف للملاجئ يعكس بوضوحٍ حالة الخوف البنيوي التي تعيشها إسرائيل، والتي لا تنبع فقط من الأخطار الخارجية، بل من الإدراك العميق بأنّها كيان يعيش وسط بيئةٍ ترفض سلوكه، لا وجوده بالضرورة، وبأنّه صنع لنفسه واقعًا يستدعي دائمًا أن يكون في موضع دفاعٍ، على الرَّغم من أنه الطرف المعتدي دائمًا.

الولايات المتحدة وفّرت لإسرائيل مظلّةً لا تُخترق سمحت لها بأن تمضي في سياسات الضمّ والاستيطان والحصار والإبادة

المأوى في إسرائيل ليس فقط جدرانًا من الخرسانة المسلّحة، بل هو أيضًا دروع سياسية وديبلوماسية وإيديولوجية تحتمي بها الدولة من مواجهة استحقاقات الشرعية والمحاسبة والمساءلة. لا ملجأ في تاريخ الدولة العبرية أكثر اتساعًا وصلابةً من الدعم الأميركي، الذي وفّر لها عبر العقود الغطاء السياسي في مجلس الأمن، والدعم العسكري في كلّ مواجهة، والتمويل السخي الذي تجاوز كلّ منطق أو مصلحة.

الولايات المتحدة، منذ عهد ترومان وحتى إدارة ترامب الحالية، وفّرت لإسرائيل مظلّةً لا تُخترق، سمحت لها بأن تمضيَ في سياسات الضمّ والاستيطان والحصار والإبادة من دون أن تُواجَهَ إلّا ببياناتٍ خجولةٍ أو احتجاجاتٍ شكليّة.

لكن الدعم الأميركي ليس الملجأ الوحيد. هناك أيضًا الملجأ الرمزي للمظلوميّة اليهودية التاريخية، الذي تُشهره إسرائيل في وجه أي انتقاد، وتُوظّفه لتحصين نفسها من المُساءلة. كلّ إدانة تُواجَه باتهامٍ بمعاداة السامية، وكلّ توثيق للجرائم يُواجَه بحملة تشويهٍ ضدّ ناقليه.

لا يمكن للطمأنينة أن تنمو في مجتمع يُدرك أنّه جاثم على أنقاض قرى مسروقة من أصحابها

بهذه الحصون، لم تعد إسرائيل في حاجةٍ فقط إلى ملاجئ ضد الصواريخ، بل إلى ملاجئ ضدّ الحقيقة.

لا يمكن بناء دولةٍ طبيعيةٍ فوق مشروع استيطاني إحلالي. ولا يمكن للطمأنينة أن تنموَ في مجتمعٍ يُدرك أنّه جاثم على أنقاض قرى مسروقة من أصحابها، ومحاط بمن يتوق إلى العدالة. هذا الإدراك المتسلّل إلى العقل الباطن الإسرائيلي يُنتج بالضرورة عقلية الخوف الوجودي، ويحوّل فكرة "الملجأ" من مكانٍ إلى فلسفة حياة.

الخوف الوجودي الذي يعيشه الإسرائيلي ليس مجرّد ردّ فعل على تهديدات خارجية بل انعكاس لضعف داخليّ عميق

على الرَّغم من أن إسرائيل تُصنّف بين أكثر الدول تسليحًا وتطوّرًا عسكريًا في الشرق الأوسط، إلا أنّ الطمأنينة لا تُصنّع في المصانع ولا تُشترى بأحدث الأسلحة والأنظمة الدفاعية. فالخوف الوجودي الذي يعيشه المواطن الإسرائيلي ليس مجرّد ردّ فعلٍ على تهديداتٍ خارجيةٍ، بل انعكاس لضعفٍ داخليّ عميقٍ، يُغذّيه الإحساس بأنّ مشروع الدولة لا يحظى بالقبول الشرعي في مُحيطه، وبأنّ القوّة وحدها ليست كافيةً لمنح الأمن والاستقرار. هذه المُفارقة، التي تتناقض فيها الهيمنة العسكرية مع الشعور الدائم بعدم الأمان، تعكس هشاشة كيانٍ مبنيّ على الاستقواء لا على العدالة، وعلى القهر لا على القبول.

إسرائيل، مهما أنفقت على أمنها، ومهما راكمت من السلاح والدعم، لا تشعر بالأمان. ومجتمعُها، الذي يُفاخر بتقدّمه التكنولوجي والعسكري، لا يملك إجابةً واحدةً عن سؤالٍ بسيط: متى سنعيش بلا ملاجئ؟!.

ربّما يكون السؤال الأهم ليس: لماذا تحتاج إسرائيل إلى ملاجئ؟ بل: لماذا لا تستطيع العيش من دونها؟ الجواب في العقليّة التي تحكمها، في الإيديولوجية التي تقودها، في المشروع الصهيوني ذاته، الذي يرى في الغلبة بديلًا عن الشرعية، وفي الحصار بديلًا عن السلام، وفي العنف بديلًا عن العدل.

الملاجئ لا تمنح شرعية ولا توفّر أمانًا حقيقيًا

وما دام اليمين المتطرّف هو مَن يمسك بزمام القرار، وما دامت لغة الحرب والاستعلاء والاستيطان هي الخطاب الرسمي، فإنّ الملاجئ ستبقى مفتوحة، تحت الأرض وفوقها، في الإسمنت والسياسة، في العقول والمواقف.

لا يمكن لدولةٍ أن تعيش في ملجأ إلى الأبد. الملاجئ تَقي من الخطر، لكنّها لا تمنح شرعيةً، ولا تبني مستقبلًا، ولا توفّر أمانًا حقيقيًا. وحده السلام العادل، والاعتراف بالحقوق، والانصياع للقانون، هو ما يُغلق أبواب الملاجئ إلى الأبد.

أما البقاء في الملجأ، فهو بحدّ ذاتِه اعترافٌ، لا تقدر إسرائيل أن تُصرَّح به... لكنّها تعيشه، لحظةٍ بلحظة:

"نحن طارئون على هذه المنطقة، وسنبقى كذلك ما لم يقبل المُضيف صاحب الحق ضيافتنا... لذلك سنبقى نحتمي في ملجأ دائم... من الحقيقة".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن