تقدير موقف

"اليوم التالي" لدونالد ترامب!

الجميع كان ينتظر ماذا بشأن اليوم التالي لحرب غزّة، اليوم انتقل التركيز إلى اليوم التالي للرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد الضربة الأميركية للمراكز النووية الثلاثة في إيران، والإعلان عن وقف النار بينها وبين إسرائيل.

ترامب تمكّن من وقف هذه الحرب المدمّرة. صحيح أنّه ألحق أضرارًا جسيمةً بالمشروع النووي الإيراني وهو ركن أساسي في بنية النظام، إلّا أنّه أوقف أيضًا حربًا إسرائيليةً شرسةً ضدّ إيران لو استمرت لهدّدت النظام وربما إيران نفسها. وقف النار يخدم إسرائيل أيضًا التي أُنهكت ولا تزال من حربٍ بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 ولم تتوقّف بعد، إضافةً إلى مخاطر وتحدّيات غير مسبوقة.

أهمّية معرفة "اليوم التالي" مردّها الخوف من نتائج السياسة الأميركية على مدى عقودٍ في المنطقة. فشل الحروب والديبلوماسية الأميركية معًا، من العراق إلى أفغانستان، باستثناء حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت واتفاقَي "كامب ديفيد" و"وادي عربة".

إيران اليوم أقرب إلى قبول تنازلات أكثر بكثير مما كانت تتخيّله سابقًا

مبادرات السلام كافّة وحتى تلك التي كادت أن تصل إلى خواتيم سعيدة مثل "كامب ديفيد 2" بين إيهود باراك وياسر عرفات ثم تعثّرت في آخر ساعة. لذلك، ليس من الغرابة رغبة واشنطن العزوف عن الشرق الأوسط، بينما تُضطرّ أن تعود إليه منغمسةً بمشاكله أكثر من السابق.

هل يمكن القول إنّ المستجدّات الأخيرة في المنطقة هي غير كل ما سبقها على مدى أكثر من نصف قرن، وإنّ الفرص المتاحة عبّدت الطريق لنجاح السياسة الأميركية، لو تقتنصها واشنطن لتضع رؤيةً وسياسةً متكاملةً لما تريده من المنطقة وما تريده المنطقة منها؟.

مُتغيّرات أربع بإمكانها تغيير الشرق الأوسط لعقودٍ مقبلة:

البداية إيران، ولعلّها اليوم أقرب إلى قبول تنازلاتٍ أكثر بكثير مما كانت تتخيّله سابقًا. التنازلات التي لم تكن واقعيةً في الماضي، قد تكون واقعيةً اليوم بعد تطويق أذرعها وتحجيمها وطردها من المشرق تقريبًا، إلى الأضرار التي طالت المشروع النووي وبنية الصواريخ الباليستية فيما أضحت دولةً مخروقة السيادة ومستباحَة الأجواء. وتأثير كلّ ما سبق على الاستقرار السياسي وديمومة النظام، ولن يغيب عن الأميركيين الأوضاع الاقتصادية المُتردّية باستمرار وتصاعد. لعلّ ذلك يُمهّد لاتفاقٍ يمنع إيران، بشكلٍ مؤكد، من تطوير سلاحٍ نوويّ ويحدّ من نفوذها الإقليمي، كما أنّ الجمع بين ضعف إيران وتهديد الولايات المتحدة المُتزايد باستخدام القوة يجعله أكثر واقعيةً من أي وقت مضى. لو تمكّن ترامب من التفاوض على مثل هذا الاتفاق، لكان بإمكانه أن يتوّج ما قام به ضدّ إيران بمثل هذه التسوية التي تُتيح لطهران التحرّر من الكثير من العقوبات ومساحةً وفرصًا لتعويض أضرار هذه الحرب وإعادة تمكين الاستقرار السياسي وديمومة النظام.

الالتزام بمسار يؤدي إلى دولة فلسطينيّة ربّما لا يكون مستحيلًا تحت ضغط من ترامب

قبل ثلاثة أشهر فقط، كانت فكرة أن تُتاح فرصة اقتحام أميركي لسوريا تبدو ضربًا من الخيال من دون سقوط نظام الأسد، الحليف الرئيس لإيران في الشرق الأوسط، وقناة تهريب الأسلحة إلى "حزب الله"، وهو الذي فتح بلاده للقواعد الروسية، والمصدّر الرئيسيّ للمخدرات، والداعم للإرهاب، وحلّت محلّه فرصة لتشكيل سوريا جديدة وحديثة مستعدّة لأن تكون في قلب دول الاعتدال العربي والانخراط بسلام المنطقة على الرَّغم من أنه لا يزال على الرئيس الجديد، أحمد الشّرع، إثبات التزامه بذلك، بينما بات الدور الأميركي يُشكّل عاملًا حاسمًا في سوريا الجديدة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيّا، وهذه فرصة لم تسنح للولايات المتحدة منذ عقود، وعلى ترامب اغتنامها.

أمّا معضلة غزّة المأساوية فحلّها بيد ترامب أيضًا، إذا استطاع المساعدة على تطبيق الاتفاق بين حماس وإسرائيل، أو حتّى منع تجدّد القتال، فستُتاح له الفرصة للبدء في وضع اللّبنات الأساسية لتحقيق قدرٍ ضئيلٍ على الأقل من الاستقرار في غزّة والضفّة الغربيّة، وعلى المدى الطويل، لاتفاقية "التطبيع" التي طالما سعى إليها بين إسرائيل والسعودية، وتمديد "اتفاقيات إبراهيم" التي فَاوَضَ عليها في ولايته الأولى. تتطلّب هذه الرؤية التاريخية ليس فقط إنهاء الحرب في غزّة، ولكن أيضًا ضغوطًا غير مسبوقةٍ على إسرائيل لتلتزم بمسارٍ يؤدي إلى دولةٍ فلسطينيّة. من المؤكّد أنّ مثل هذا الالتزام يصعب تصوّره في ظلّ الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولكنّه ربّما لا يكون مستحيلًا تحت ضغطٍ من ترامب، الذي سيكون في وضعٍ فريدٍ يسمح له بالتأثير في إسرائيل، بخاصةٍ إذا رأى في القيام بذلك طريقًا إلى تكريسه صانعًا للسلام كما يصبو.

ستُتاح لترامب فرصة تهميش "حزب الله" ونقل لبنان كما سوريا إلى مكانه الطبيعي مع الدول العربية

المحطّة الرابعة، لبنان ساحة صراعات المنطقة منذ الستينيّات، فقد تمكّنت أحداث المنطقة مؤخّرًا من اختراق الدائرة المغلقة من النزاعات الأهلية والإقليمية على أرضه. ولأوّل مرة منذ بداية الحرب الأهلية سنة 1975، لبنان من دون نفوذٍ أو وصايةٍ خارجيّة، بدأت بالفلسطينيين وانتهت بإيران عبر "حزب الله" وقبلها سوريا لما يقرب من ثلاثين سنة، ما أدّى اليوم إلى وصول نخبةٍ حاكمةٍ جديدةٍ متباينةٍ مع كلّ ما سبق وملتزمة بتحسين الحوْكمة وضمان استقلال الدولة اللبنانية. لن نتجاهل أنّ "حزب الله" يمارس نفوذًا كبيرًا على السياسة اللبنانية، لكنّ نفوذه تضاءل بشكلٍ كبير بعد الحرب مع إسرائيل وتراجع قدرة إيران على إعادة إمداد الحزب بسبب خسارتها سوريا من جهة، وبعدما تعرّضت له في الحرب مع إسرائيل من جهةٍ ثانية.

التشدّد مرشح للارتفاع بعد حرب غزّة والحرب الإسرائيلية على إيران

إلى كل ذلك، الحكومة اللبنانية الجديدة تحظى بالدعم الدولي السياسي والاقتصادي والعسكري اللازم لنجاحها، بما في ذلك من الولايات المتحدة. وإذا استطاع ترامب التغلّب على رغبته الرّافضة للمساعدات الخارجية، فستُتاح له فرصة مساعدة الحكومة والجيش اللبنانيَيْن بالوسائل والثقة اللّازمتين لتهميش "حزب الله" أكثر وتقليص نفوذ إيران، ونقل لبنان كما سوريا إلى مكانه الطبيعي مع الدول العربية الرئيسة.

من الطبيعي أنّ مسالك المنطقة غير معبّدةٍ ولا مفروشةٍ بالورود: التشدّد مرشح للارتفاع بخاصةٍ بعد حرب غزّة ونتائجها المدمّرة والحرب الإسرائيلية على إيران. لن نغفل حالة النكران المُتجلّية في مهرجانات النصر في أكثر من مكان. وفي المقابل، السياسة الأميركية لا تُؤتمن ومعرّضة للتغيير والتردّد بخاصةٍ أنها تتأثّر بشكل كبير بالسياسة الداخلية والتجاذب الحادّ بين الأطراف السياسية، فضلًا عن العامل المرتبط بتقلّب مواقف ترامب نفسه.

وأخيرًا العقدة الأصعب، إسرائيل وحكومتها المتشدّدة، من دون أن نحسم طبيعة ما سترسو عليه الأوضاع الداخلية فيها إذا قُدِّرَ لوقف النار الصمود وانتهاء حرب غزّة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن