توقفت الحرب التي فجرها العدوان الإسرائيلي على إيران فجر الجمعة (2025/6/13)، تكتيكياً ربما، لكن تداعياتها لن تقتصر على الأطراف المتحاربة فقط، بل سوف تمتد إلى جوارها الإقليمي الذي قد يشارك مضطراً في دفع بعض الأثمان. أول المرشحين لدفع الأثمان هو لبنان الذي كانت قياداته السياسية، وعلى الأخص الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية ممثلة في الرئيس جوزيف عون، ورئاسة البرلمان ممثلة في رئيسه نبيه برى، ورئاسة مجلس الوزراء ممثلة في نواف سلام رئيس الحكومة، كانت كلها شديدة الحرص ومتوافقة على الالتزام بالمواقف التي تجنب البلاد تداعيات تلك الحرب.
وكان الموقف الأكثر إثارة هو التزام "حزب الله" بهذا الموقف المنضبط، ولم يتورط في الحرب، حتى بعد القصف الجوي الأمريكي للمنشآت النووية الإيرانية، والتدخل المباشر لدعم إسرائيل ضد إيران في هذه الحرب. فلم يتحرك الحزب عسكرياً ضد إسرائيل وظل ملتزماً باتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى توقيعه بوساطة أمريكية (2024/11/27)، وعندما أصدر أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بياناً عقب القصف الأمريكي للمنشآت النووية الإيرانية والذي أعلن فيه أن الحزب "ليس على الحياد" في الصراع بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة، لم يحدث أي تحرك عسكري من جانب الحزب، وجرى تفسير إعلان الشيخ نعيم قاسم بأنه يخص احتمال الاعتداء على السيد علي الخامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وفق تهديدات أمريكية وإسرائيلية بذلك.
رغم هذا الانضباط من جانب حزب الله وكل الرئاسات اللبنانية، بدأت الضغوط الإسرائيلية والأمريكية تتصاعد على لبنان كله وليس فقط على "حزب الله". فقد قامت إسرائيل بتكثيف اعتداءاتها على الجنوب اللبناني، ومنع سكان القرى الحدودية من إعادة ترميم منازلهم المهدمة، أو العودة إليها، ولم تتوقف المسيّرات الإسرائيلية عن التحليق فوق سماء الجنوب اللبناني طوال الأسابيع الماضية، ضمن «حرب نفسية» تستهدف تقويض الحياة اليومية للسكان، في محاولة لإجبارهم على الرحيل، كون الجنوب لم يعد قابلاً للحياة، بهدف استخدام الجنوب كورقة ضغط على الحكومة اللبنانية لإجبارها على الاستجابة للمطالب الإسرائيلية وفي مقدمتها نزع سلاح حزب الله، كأحد أهم الشروط والمطالب الإسرائيلية لقبول تنفيذها "المرحلي" لاتفاق وقف إطلاق النار.
الموقف الأمريكي لم يكن أقل صرامة، ولكن من مداخل سياسية وليست عسكرية، حيث أخذ توماس براك السفير الأمريكي في تركيا المبعوث الأمريكي لدى سوريا، على عاتقه مهمة إكمال ما بدأته "مورغان أورتاغوس" النائبة السابقة للمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ففي أوج اشتعال الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وبالتحديد في الخميس (2025/6/19) زار براك بيروت والتقى كبار المسؤولين، وسلمهم ورقة المطالب الأمريكية التي تتمحور حول نقل ملف سلاح حزب الله إلى مجلس الوزراء ليتخذ، كسلطة تنفيذية، قراراً بالتنفيذ واعتماد آلية "الخطوة مقابل خطوة" لتنفيذ القرار، أي أن أي إجراء إيجابي لبناني بتنفيذ تلك المطالب سيقابل بإجراء إيجابي إسرائيلي، وطالب هذا المبعوث الذي أبلغ كبار من التقاهم من المسؤولين أنه سيعود في منتصف الشهر الجاري، ويأمل أن يجد التزاماً رسمياً بضرورة حصر السلاح بيد الدولة على كامل الأراضي اللبنانية وليس فقط شمال الليطاني، كما ينص اتفاق وقف إطلاق النار.
لم يتوقف الأمر على ذلك، ولكنه، في تعجل أمريكي لنتائج الحرب الإسرائيلية الإيرانية، صرح توماس براك الأحد الماضي بأن الحرب بين إيران وإسرائيل تمهد لـ"طريق جديد في الشرق الأوسط"، واعتبر أن اتفاقيات السلام بالنسبة لسوريا ولبنان مع إسرائيل "باتت ضرورة"، متجاوزاً البنود الثلاثة الواردة في ورقة المقترحات الأمريكية: ملف سلاح "حزب الله" والسلاح غير الشرعي، وملف الإصلاحات، وملفات العلاقات اللبنانية السورية ومن ضمنها ترسيم الحدود بين البلدين.
الملفت في التصريحات الجديدة للمبعوث براك بخصوص تطبيع العلاقات اللبنانية الإسرائيلية ضمن ما اعتبره من نتائج الحرب الإسرائيلية الإيرانية وبزوغ "طريق جديد في الشرق الأوسط" توافقت مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد يوم واحد من تصريحات براك التي قال فيها إن "بلاده مهتمة بتطبيع العلاقات مع كل من سوريا ولبنان" في إطار الاتفاقيات التي أبرمتها قبل أعوام مع دول عربية بدعم أمريكي. وقال "لدينا مصالح في ضم دول جديدة مثل سوريا ولبنان إلى هذه الدائرة".
كيف سيرد لبنان؟ هل يمكن أن يتوحد لبنان على رد.. أم أن هذه الضغوط والمطالب الجديدة يمكن أن تكون مدخلاً لمزيد من تفكيك لبنان واستقطابه بين تيارين متصارعين: من يقبلون التطبيع وإنهاء أي وجود لما يسمى بـ"مقاومة"، وبين من سيجدون أنفسهم مضطرين للعودة مجدداً للدفاع عما يسمى بـ"لبنان المقاوم"؟ خصوصاً وأن الأوضاع الداخلية مهيأة لمثل هذا الاستقطاب الأخير، حيث إن "حزب الله" بدأ يظهر رفضه لمطلب نزع سلاحه، في وقت تتفاقم فيه الاعتداءات الإسرائيلية، وفي الوقت الذي لم تتقدم فيه إسرائيل خطوة نحو تنفيذ التزاماتها في اتفاق وقف إطلاق النار، فضلاً عن دور "الوصاية الأمريكية" على لبنان الذي أخذ يتفاقم منذ التوقيع على ذلك الاتفاق بعد انهيار توازن القوى بين "حزب الله" وإسرائيل، بعد انتكاساته العسكرية وسقوط النظام السوري وغياب الموازن الإيراني لتلك الوصاية الأمريكية.
(الخليج الإماراتية)