صحافة

هل يراد تفكيك الترسانة أو تفكيك "حزب الله" نفسه؟

وسام سعادة

المشاركة
هل يراد تفكيك الترسانة أو تفكيك

هاجسان لا يقتصران على "حزب الله" وحده في هذه الأيام، بل يشاركه فيهما، كلّ في موقعه، ومن منظاره وقنواته، من يتولى المناصب العليا في الدولة اللبنانية أيضاً. الهاجس الأوّل هو أنّ استحقاق التفكيك النهائي لترسانة الحزب العسكرية ليس تحدياً يمكن الإفلات من مواجهته بالحجج الخطابية أو البلاغية.

فميزان القوى أكثر اختلالاً بكثير من أن تتم مداواته بالفطنة والتأني عند انتقاء المفردات الرسمية في سياق تقديم الجواب على الورقة – "الإنذارية" – للمبعوث الأمريكي توم برّاك. فالموضوع يتعلق بآلة حرب وعدوان إسرائيلية ليس من المضمون أصلا أن تنتظر الأخذ والرد بين برّاك والجانب اللبناني، بل هي لا تزال تعتمد "حرب القنص" اليومية في النطاق اللبناني. الهاجس الأول يتعلق اذاً، وبوضوح، بكيفية اجتناب حرب تدميرية أخرى على الحزب وعلى لبنان في ظروف أصعب – دعك من كل المكابرات- من تلك التي سبقت.

والهاجس الثاني أنه في الظروف الحالية لا يبدو أن الشراكة الأمريكية – الإسرائيلية ستتوقف عن مطالبة لبنان بأشياء وأشياء كلما تحقق لها ما كانت تسعى وراءه من قبل. لن تشبع أو ترتوي بسهولة. الظرف ليس يغريها، من جهة لبنان، إلا بطلب المزيد. هذا شعور قد يصعب إيضاحه واستنطاقه بالشكل الكافي، لكنه شعور موجود على ضبابيته والتباساته. ولا يصدر لا عن وهم كلي ولا عن عبث محض. بل عن سياق ضاغط يفرض من بعد مجموعة انهيارات وانكسارات في السنوات الأخيرة على أكثر من صعيد "إعادة اكتشاف" البلد لصغر رقعته، وصعوبة موقعه، وخطورة الصدع الداخلي فيه، وإدراك "حزب الله" بالتحديد، أنه، ومن بعد الحرب القاسية في الخريف الماضي بات يجد نفسه محاصراً من كل حدب، لا سيما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.

هذا وقد تعسّفت أمريكا وإسرائيل أكثر فأكثر في قراءة تفاهم وقف إطلاق النار. بشكل حول وقف النار إلى إطار لاستمرار الاستهدافات الحربية ومواصلة الاحتلال الإسرائيلي لمواقع من الجنوب والحيلولة دون أي إقلاع ولو رمزي لمسيرة إعادة الإعمار بل إعمال المزيد من الهدم، بما في ذلك في الضاحية الجنوبية، من بعد العدوان الأخير عليها قبل أسابيع قليلة. الشعور إذاً هو أنه كلما نال الأمريكيون والإسرائيليون مراداً من الحزب ومن لبنان الرسمي ستجدهم يطالبون بالمزيد. وهم يفعلون ذلك باليوم مباشرة من بعد عدم تدخل الحزب بأي شكل كان في أيام المواجهة الحامية الوطيس والمباشرة بين إيران وبين إسرائيل.

هب أن الحزب سلّم كل السلاح جنوب نهر الليطاني، سيُطالب بتسليم المستودعات شمال النهر. هب أنه تخلى عن سلاحه الثقيل، سيجد نفسه أمام استحقاق تسليم الخفيف. واليوم، يبدو أنه تجري محاولة جس نبض لتفاهم يتخلى فيه الحزب عن سلاحه الثقيل ويكتفي بصواريخ مضادة للدبابات وأسلحة خفيفة. لكن من يستحصل منه التنازل عن السلاح الهجومي كم يلزمه من الوقت لمطالبته بسلاحه الدفاعي أيضاً؟  والمسألة ليست في أول الأمر وآخره "سلاحية" بحت.

لئن كانت بعض الحساسيات في الداخل اللبناني ترفع منذ سنين طويلة شعار تسليم الحزب سلاحه إلى الدولة اللبنانية كغاية بحد ذاتها، غاية مدمجة بالغاية من فكرة الدولة نفسها – كصاحبة سيادة واحتكار للعنف على جميع أراضيها، فإن "تسليم السلاح" ليس عند الأمريكيين والإسرائيليين بغاية بحد ذاتها، ولا هو يقتصر على تحقيق فكرة الدولة اللبنانية، ولا احتكار الأخيرة لمنظومة العنف الشرعي، بل وبالمباشر أكثر، فإن تسليم السلاح هو بند في سياق أكثر شمولية يراد من خلاله إخراج لبنان نهائياً من خانة الصراعات مع إسرائيل، وهذا في العرف الأمريكي، قبل الإسرائيلي، سيرتبط عاجلا أم آجلا بإبرام اتفاقية بين البلدين، يمكن أن تقاس بالسلب والإيجاب، حسب زاوية النظر، على معاهدة 17 مايو 1983، ولا يمكن بالتالي الاكتفاء بربط موضوعة تسليم السلاح بالقرارين 1701 و1559 فقط، ولا بتداعيات إحياء وتوسعة "التفاهمات الإبراهيمية".

لأجل ذلك، إذا كان الهاجس الأول – ما عاد من الممكن اجتناب استحقاق «تسليم السلاح» بلاغياً أو بتقطيع الوقت – يضغط على الحزب ولبنان الرسمي معاً، فإن الهاجس الثاني لا يقل خطورة. أبداً. بل يدفع على التخبط عندما يتعلق الأمر بتقرير ما الذي ينبغي فعله للتصدي لاعتبارات الهاجس الأول. إذ يبدو بالفعل أن لا سقف أعلى لما سوف يستمر الأمريكيون والإسرائيليون في الإلحاح بطلبه لبنانياً، ولما يظهر أن المناعة اللبنانية بإزاء هذا الضغط ستزيد كلما حصلت تنازلات "على الترسانة"، بل يرجح العكس. فإذا كانت الحسبة التي يمكن أن تقنع "حزب الله" بأن عليه تسليم سلاحه للاحتفاظ بكيانه، فإن الطلب الأمريكي الإسرائيلي يتجاوز ذلك، للانطلاق من تفكيك الترسانة إلى تفكيك وجود كتلة وازنة في الداخل اللبناني تتخذ من تدمير إسرائيل مدماكاً عقيدياَ – برنامجياً.

فكرة أن كل ما يريده الأمريكيون من الجانب اللبناني هو أن يسلم الحزب سلاحه، ثم يتحول، مع العقيدة نفسها، إلى حزب سياسي ممأسس، إنما قادر على الوقوف حجر عثرة في الوقت نفسه ضد أي "17 أيار" جديد في لبنان، فيها قدر من التسطيح. المطلوب أمريكيا، قبل أن يكون إسرائيليا، هو إخراج لبنان تماماً من دائرة التضاد والنزاع مع إسرائيل.

ثمة في هذه الأيام، بعد كل شيء، ثلاثة دوائر من المسائل العالقة، إنما التي لا يسعها أن تبقى كذلك عالقة الى ما لا نهاية. ثمة دائرة "العالق" بين إسرائيل وبين العربية السعودية أولا. فالاتفاقيات الإبراهيمية لن تعرف زخماً طالما لم يحدث الخرق على هذا الصعيد، وهذا لا أمل جدياً لتحقيقه طالما أن إسرائيل ترفض بشكل محموم فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها. وثمة دائرة "العالق" بين إسرائيل وبين سوريا، إذ تسعى الأولى لفرض معادلة على نظام الأحوال الجديد في الشام بأنه لا عودة عن احتلال الأراضي المحتلة في نصف العام الأخير قبل الإقرار لها بالهضبة المحتلة عام 1967.

يبدو بالمقارنة، ومن بعد حرب التدمير الأخيرة، ومن بعد تجربة مريرة مع الاحتلال والاجتياحات الإسرائيلية، بأن "العالق" بين لبنان وإسرائيل أكثر جذرية، قياساً على المتواتر من مناخات ووساطات على خطي الرياض ودمشق. إنما، المفارقة هنا أنه ليس هناك "موضوعياً" لا العائق الذي يشكله رفض إسرائيل فكرة الدولة الفلسطينية، ولا رفضها – بخاصة من بعد اعتراف دونالد ترامب بذلك – إعادة النظر بضمها من جانب واحد لهضبة الجولان. العائق اللبناني "نفسي" أكثر. ونفسي أيضاً لأنه يثير مخاوف انشطار حاد في الرأي كما في المزاج بين اللبنانيين.

ولأجل ذلك، لئن كانت الحكومة اللبنانية ما زالت تقنع نفسها بإمكانية التترس وراء مبادرة بيروت العربية للسلام 2002 ومبدأ السلام العادل والشامل، فإن أقل الإيمان في المقابل الاعتراف بأن الضغط الأمريكي تحديدا في موضوع سحب سلاح الحزب بالكامل ما هو إلا توطئة، مستعجلة من أمرها بأكثر مما يتخيل كثيرون، للضغط في اتجاه فرض "الصلح المنفرد". والحال هذه يغدو السؤال الأكثر الحاحاً والأكثر استبعاداً له عن جادة النقاش: هل يجري العمل اليوم على تفكيك ترسانة عسكرية وأمنية أم على تفكيك نهائي لـ"حزب الله" ككتلة أيديولوجية أيضاً؟ تفكيكه قبل كل شيء كلغة، كحوض دلالي يمارس تأثيرا لدى شريحة واسعة من الناس؟

الطامة أنه وبدلا من أن تجري مناقشة هذا الترابط، في التصور الأمريكي، بين سحب السلاح في سياق تفكيك الحزب وبين تحضير الأرضية للصلح المنفرد، تكرر كل نعامة في لبنان دفن رأسها في الرمل، والتفاعل مع موضوع "نزع السلاح" كما لو كان أقنوماً قائماً بذاته، ليس بعده لحظة تالية ومتممة.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن