على هذا الأساس، فكلّما تقوّت الديموقراطية وسادت مبادئ القانون، كلما اتّضح بجلاء أكبر الخط الفاصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وكلّما تعثّرت الديموقراطية أو تمّ الإخلال بالقانون، كلّما تعذّر التمييز بين المستويين، فيتداخل الخاص بالعام والمصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، وتضيع مصالح الناس بجريرة كلّ ذلك.
ولعلّ أقوى مؤشرات التفاعل السلبي بين القطاع العام والسوق، إنما انتشار مظاهر تضارب المصالح، المحيلة صوبًا على حالات التنافي المضرّة حتمًا بالمرفق العام، بالمصلحة العامة وبمبادئ المنافسة بالسوق.
تضارب المصالح يمكن التثبّت منه مثلًا في مجال "الصفقات العمومية"
والقصد بتضارب المصالح في هذا الباب، إنما الحالة التي يعمد المؤتمن بموجبها على المصلحة العامة، إلى إعمال سلطته وسلطانه لتثمين مصلحته المباشرة، أو مصلحة عائلته أو محيطه أو أصدقائه، أو من له معهم علاقة.
تضارب المصالح بهذا المعنى، يطال كل من لديه عهدة لها تماس مباشر بالمصلحة العامة. يطال رئيس الدولة والوزراء ونواب البرلمان، ويطال الإدارة العمومية، بالمركز وبالجهات على حد سواء.
ولذلك، فكلّما كانت الديموقراطية هشّة والإدارة منتفخة عن آخرها، فإنّ ثمة حتمًا تضاربًا للمصالح يمكن التثبّت منه بمجال الصفقات العمومية مثلًا، وإن جزئيًا، في بنود دفتر التحملات، فيمن ترسو عليه الصفقة وبأيّ سعر ينتهي "المزاد".
نحن بالقطع بإزاء استخدام سيّء للسلطة من لدن من يتحكّمون فيها، لأنّ الأمر هنا لا يقتصر على استغلال المنصب والنفوذ لإدراك مصلحة خاصة، بل يتعدّاه عندما يتمّ استغلال المنصب إياه وتوظيفه في تحريف السوق عن مقاصده، أو التأثير على فاعليه (بالانحياز لطرف دون آخر) أو مصادرة قطاعات كاملة من بين ظهرانيه (في حالة الاحتكار مثلًا) أو في إجبار الفاعلين على الاشتغال خارج إطار المنافسة، بتوافقات مضمرة أو بتواطؤات ضمنية أو بحروب مستترة، يُستباح فيها سلاح الضرب تحت الحزام.
قد يُلحق إعمال القانون أضرارًا بمصالح سياسيين، فيعمدون إلى تغييره على "هواهم"
وإذا كان من المتعذّر حقًا تعيين وحصر حالات تضارب المصالح بحكم اللبس الاصطلاحي الملازم لها، وصعوبة تحديد ما هو عام منها مما هو خاص، فإنّ ثمة توافقًا على أنّ إحدى مداخل "الحد" من هذه الظاهرة إنما سنّ أو إعمال بنود القانون.
وهذا صحيح. بيد أنّ هذا العنصر، وإن كان ضروريًا، يبقى غير كافٍ، ليس فقط لهلامية الظاهرة وتقاطعها مع ظواهر أخرى قريبة منها (من قبيل المحسوبية والزبونية وضغط المستويات القبلية أو الطائفية أو الحزبية أو ما سواها)، بل لأنّ إعمال القانون لوحده قد يأتي بنتائج قد تكون عكسية أيضًا، في حالة التلاعب بالقانون نفسه من لدن سياسيين قد يُلحق إعمال هذا القانون أو ذاك أضرارًا بمصالحهم المباشرة، فيعمدون إلى تغييره على "هواهم".
إنّ مخاطر تضارب المصالح لا تنحصر في وظيفة هذا الموظف العمومي أو ذاك. إنها تتجاوز ذلك وتنتشر أكثر في حالة انتقال الموظف إياه للعمل بالقطاع الخاص، أي بالسوق.
إنه ينقل معه، لا سيما إذا كان موظفًا ساميًا، معطيات دقيقة قد يعمل على تسريبها لفائدة مستخدميه الجدد. ثم إنّ الموظف إياه وقد بات من بين ظهراني السوق، غالبًا ما يكون مُلمًا بالقوانين والإجراءات العمومية، فيوظّفها بذكاء للتحايل على القانون وتوظيفه لمصلحة مستخدميه، ومن ثمة لمصلحته.
(خاص "عروبة 22")