اقتصاد ومال

التغيّرات المناخية والاقتصاد في العالم العربي: توقعات قاتمة وبدائل متاحة

تؤكّد كل المؤشرات المتعلقة بالتأثير المرتقب للتغيّرات المناخية على المنطقة العربية خلال السنوات القليلة المقبلة، أنّ ظواهر الجفاف واضطراب التساقطات وارتفاع درجات الحرارة ستصبح بنيوية ومزمنة، وهو التأثير الذي سبق أن وصفته منظمة السلام الأخضر بالمدمّر، خاصّة بالنسبة لدول المغرب والجزائر ومصر ولبنان وتونس، لِما سوف يخلفه من تقويض لجهود التنمية الاقتصادية، ومفاقمة للتبعية الغذائية وتهديد للاستقرار الاجتماعي.

التغيّرات المناخية والاقتصاد في العالم العربي: توقعات قاتمة وبدائل متاحة

من شأن هذا التأثير المرتقب إجبار دول المنطقة على إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية، وتحويل جزء كبير من مواردها المالية لمواجهة الآثار المترتبة عن هذا الوضع، من قبيل ندرة المياه والتصحر وتراجع المساحات المزروعة، وهي مشاكل انتقلت من هامش الاهتمام الحكومي لدى عدد من الدول العربية إلى المركز، بفعل التغيّر الطارئ على أولويات المواطنين ومطالبهم الاجتماعية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، أدى تقلص حجم الواردات المائية في المغرب والجزائر وتونس (التي سجّلت نسب ملئ السدود بها خلال الفترة الربيعية لسنة 2024 على التوالي 32% و40% و31% ) إلى تعاظم الاحتجاجات بعد تعذّر استمرار تزويد بعض المناطق بماء الشرب، وهي الاحتجاجات التي وصفها البعض بـ"ثورة العطشى"، وهي في اعتقادنا مجرد إرهاصات أولية لِما قد يكون عليه الوضع خلال الأشهر القليلة المقبلة أو السنوات القادمة إن لم يتم إيجاد بدائل حقيقية وعاجلة.

المنطقة العربية تقع على خط المواجهة البيئية وستدفع الفاتورة الأثقل دوليًا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية

لقد دفع هذا الوضع بدول المنطقة إلى التفكير في مراجعة سياساتها الاقتصادية، في ظل تحوّل الجفاف من الطابع الموسمي إلى البنيوي المُزمن، وهي مراجعات أفضت خلال السنتين الماضيتين إلى تسريع إنجاز عدد من البنى التحتية، حيث عملت الجزائر والمغرب على تسريع عمليات إنجاز محطات التحلية وقنوات نقل المياه والسدود وتدارك الزمن التنموي المهدور، وذلك بعد تسجيل تأخر كبير في إنجاز هذه المشاريع خلال العقد الماضي وذلك لمجموعة من الاعتبارات السياسية.

إنجاز هذه المشاريع أمرٌ مكلفٌ للغاية، فرض على بعضها البحث عن تمويلات لمواجهة هذه الأعباء الطارئة، وإذا كان هذا الأمر لا يشكّل تحديًّا حقيقيًا لدى بعض دول المشرق العربي، فإنّ الأمر لا ينطبق على بعض الدول العربية كالمغرب ومصر التي أجبرت على الاستدانة، وهو سبيل لا زالت تونس ولبنان تترددان في سلوكه بعد وضع المؤسّسات المالية الدولية عددًا من الشروط المجحفة لولوجه.

لقد أضحى المستقبل البيئي قاتمًا لدى معظم الدول العربية، وهو الأمر الذي نجمت عنه تحديات غير معتادة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تتطلب البحث عن بدائل وحلول واقعية وعاجلة، لمواجهة ما قد يتسبّب فيه هذا الوضع من انهيار لعدد من القطاعات الاقتصادية في مقدمتها القطاع الفلاحي، وهو ما يعني حدوث مشاكل خطيرة على مستوى الأمن الغذائي، والبطالة وتفكيك البنية المجتمعية القروية ومفاقمة الهجرة نحو المدن.

وفي هذا السياق، نورد مثال المملكة المغربية، التي تشهد جفافًا مستمرًا منذ ست سنوات، أفرغ حقينة السدود وهوى بإنتاج الحبوب إلى مستويات مقلقة، وهو ما تسبّب في رفع مهول لنسب البطالة التي تجاوزت لأول مرة في شهر مايو/أيار الماضي سقف 14%، وهو ما فرض على الحكومة زيادة الدعم المرصود لاستيراد حبوب القمح، وإدراج مواجهة الجفاف ضمن أولويات الحكومة في موازنة السنة الجارية، وتحويل مجموعة من الاستثمارات العمومية بشكل عاجل من أجل تمويل مشاريع تحلية المياه؛ هذا الوضع المقلق يمكن تعميمه بدرجات متفاوتة على معظم الدولة العربية، التي يعاني بعضها من تحديات مركّبة تجمع بين الحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي والمخاطر المناخية، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد بالمنطقة ويعزز التوقعات السلبية التي ترجح فرضيات الانكماش الاقتصادي وتعاظم الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بالتغيّرات المناخية.

مواجهة التحديات المشتركة بالتجزئة والتشرذم أمرٌ لا يستقيم مع خصم يمثّل تهديدًا وجوديًا لمعظم الدول العربية

إنّ معظم الدراسات البيئية الاستشرافية الصادرة عن مختلف المؤسسات الحكومية والأممية ومنظمات المجتمع المدني تدق ناقوس الخطر، على اعتبار أنّ المنطقة العربية تقع على خط المواجهة البيئية، وهي من ستدفع الفاتورة الأثقل دوليًا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، في ظل غياب أي تنسيق إقليمي لمواجهة هذه التحديات الخطيرة.

لقد فضّلت الدول العربية مرة أخرى، مواجهة التحديات المشتركة بالتجزئة والتشرذم، وترجيح كفة الحلول الأحادية، وهو أمرٌ لا يستقيم هذه المرّة وطبيعة الخصم الذي يمثّل تهديدًا وجوديًا لمعظمها، ففي غضون السنوات المقبلة قد يصبح العيش في بعضها مستحيلًا، وهو ما يتطلب مراجعة شاملة وجذرية لتوجهات الدول العربية، وتجاوزًا وترفّعًا عن الخلافات السياسية، لأنّ الزمن لا ينتظر والسياق الراهن والمستقبلي يتطلّب إنشاء مؤسسات مشتركة موجهة للتمويل والبحث العلمي، كما يتطلب تشكيل جبهة عربية موحّدة للترافع الدولي وإجبار الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات على تحمل مسؤولياتها البيئية والمساهمة في تمويل المشاريع المرصودة لمواجهة التغيّرات المناخية بالمنطقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن