إِنَّ هَذا التَّصَوُّرَ الذي يَجْعَلُنا أَمامَ طَرَفَيْ نَقيضٍ هوَ ما يُشَكِّلُ طَبيعَةَ تَمَثُّلِنا السِّياسيِّ لِلْمُمارَسَةِ النَّقْدِيَّةِ في الفَضاءِ العُموميِّ، وَهو تَمَثُّلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَتَوافَقَ مع الإِشارَةِ التي أَثارَها الفَيْلَسوفُ والمُؤَرِّخُ الألمانِيُّ "رايِنهارت كوزيليك" (Reinhart Koselleck)، مِنْ خِلالِ كِتابِهِ الأَوَّلِ "الأَزْمَةِ والنَّقْدِ" (Kritik und Krise)، حَوْلَ مَفْهومِ الفَضاءِ العُموميِّ في السِّياقِ الحَداثِيّ.
الوضع السياسي الراهن ظرفي يُلخَّص وفق منظور سلبي
لَقَدْ اتَّخَذَ هَذا المَفْهومُ مَسارًا في تَشْكيلِ الوَعْيِ التَّنْويريِّ بِناءً على ثُنائِيَّةٍ قُطْبِيَّةٍ، مُفادُها أَنَّ العالَمَ يُؤَطَّرُ انْطِلاقًا مِنْ القِيَمِ الخَيِّرَةِ أَخْلاقِيًّا؛ وَهُنا نَكونُ أَمامَ ما يَنْبَغي أَنْ يَكونَ من جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرى يُفَسَّرُ مَنْ خِلالِ الوَضْعِ الرّاهِنِ أَوْ الكائِنِ الذي يَجِبُ تَجاوَزُهُ نَحْو المَأْمولِ الأَوَّلِ، فَالوَضْعُ السِّياسِيُّ الرّاهِنُ هو ظَرْفِيٌ يُلَخَّصُ وَفْقَ مَنْظُورٍ سَلْبِيٍّ لا يَرْقى لِما هُوَ مَأْمولٌ أَخْلاقِيًّا، فَيَكونُ النَّقْدُ الأَنْوارِيُّ هُنا نَقْدٌ، كَما يوضِحُ كوزيليك، الغَرَضُ مِنْهُ تَفْكيكُ الدَّوْلَةِ الرّاهِنَةِ تَحْتَ اسْمِ المَصْلَحَةِ التي تَرْفَعُها الطَّبَقَةُ البورْجُوازِيَّة. هَذِهِ هي الرُّؤْيَةُ المانَوِيَّةُ لِلدَّمْجِ ما بَيْنَ السَّقْفِ الأَخْلاقيِّ والواقِعِ السِّياسيِّ الذي يُشَكِّلُ، بِشَكْلٍ ما، هُوِيَّةَ التَّنْويرِ الغَرْبيِّ لِمُمارَسَةِ النَّقْدِ في الفَضاءِ العُمومِيّ.
يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ تَمَثُّلَنا عَنْ الفَضاءِ العُموميِّ قَدْ اسْتَدْمَجَ هَذا التَّصَوُّرَ، بِمَعْنى ما، فَغالِبًا ما نُحاكِمُ الواقِعَ السِّياسِيَّ بِالسَقْفِ الأَخْلاقيِّ المَأْمولِ، فَحَتَّى إِنْ انْطَلَقْنا مِنْ نَقْدِ حَيْثِيّاتِ المَعيشِ اليَوْميِّ، فَإِنَّ المُبْتَغى غالِبًا ما يَهْدِفُ إلى إِحْداثِ تَغْييرٍ كُلّيٍّ، يُلَخِّصُ الرّاهِنَ السِّياسِيَّ كَكُلٍّ في خانَةِ السَّلْبِ الواجِبِ تَجاوُزُهُ نَحْوَ مَفاهيمَ تَرْسُمُ المَأْمولَ الأَخْلاقِيَّ في المَجالِ السِّياسيِّ كَالعَدالَةِ، والحُرِّيَّةِ، والمُساواة.
هَذا ما يَعْكِس تَوَجُّهًا سَلْبِيًّا لِلْمُمارَسَةِ النَّقْدِيَّةِ في الفَضاءِ العُموميِّ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ الإِطَارُ الدّيموقْراطِيُّ لِلْفَضاءِ العُموميِّ مُناسَبَةً لِتَمْريرِ التَّوَجُّهاتِ والإِيدْيولوجِيّاتِ الهَدَّامَةِ لِهَذا الفَضاءِ نَفْسِهِ، وَهُوَ ما يُذَكِّرُنا بِوَصْفِ رايِنهارت كوزيليك هَذا التَّوَجُّهَ بِسَلَبِيَّةِ الفَضاءِ العُموميِّ أَوْ الفَضاءِ العُموميّ السَّلْبيِّ (Negative Öffentlichkeit)، وَهو تَصَوُّرٌ يَقومُ على اسْتِحْضارِ النِّظامِ الدّيموقْراطيِّ اللّيبيراليِّ بكُلِّيَّتِهِ وَشُمولِيَّتِهِ، هَذِهِ الشُّمولِيَّةُ التي تُلَخِّصُ تَقْييمَهُ بِما هو ديكْتاتورِيَّةٌ لِلرَّأْيِ العَامِّ والصِّحَّةِ السِّياسِيَّةِ، وَبِأَنَّ المَسْؤولينَ فيه مُدَمِّرونَ للدَّوْلَةِ والوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ، في حِينِ تُقَدِّمُ هَذِهِ التَّوَجُّهاتُ أَوْ التَّيّاراتُ نَفْسَها على أَنَّها تُمارِسُ حُرِّيَّةَ التَّعْبيرِ، لَكِنْ قَدْ تَتَحالَفُ في المُقابِلِ مَعَ أَحْزَابٍ ذاتِ إيدْيولوجِياتٍ لا تُؤْمِنُ بِالدّيموقْراطِيَّةِ وَلا بِالحُقوقِ الفَرْدِيَّةِ وَفَصْلِ السُّلُطاتِ وَهُوَ ما يُنْذِرُ بِخَلْقِ ديكْتاتورِيّاتٍ بَديلَة.
بِناءً على ما سَبَقَ يُمْكِنُ اسْتِخْلاصُ الآتي:
ــ تَضَخُّمُ الفَضاءِ الخَاصِّ يُنْذِرُ بِشَكْلٍ دائِمٍ بِحُدوثِ احْتِجاجاتٍ أَوْ تَنْفيساتٍ تُحَطِّمُ الحاجِزَ الفاصِلَ ما بَيْن الفَضاءِ العامِّ والخاصِّ، وتَكْسيرُ هَذا الفاصِلِ يَعْمَلُ في الآنِ نَفْسِهِ عَلى تَبْيانِ لامَحْدودِيَّةِ التَّوَجُّهاتِ الاحْتِجاجِيَّةِ لَدَى الجُمْهورِ وَيَسْمَحُ في المُقابِلِ بِإِعادَةِ رَسْمِ الفَجْوَةِ بَيْنَ المَجالَيْنِ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ حَزْمًا وَقُوَّةً مَنْ طَرَفِ النِّظامِ السِّياسِيّ.
- لا يَعْكِس النَّقْدُ في ظِلِّ الفَضاءِ العُموميِّ بِالضَّرُورَةِ شَحْنَةً إِيجابِيَّةً تُساهِمُ في سَلاسَةِ البِناءِ السِّياسيِّ، فَقَدْ يَنْتُجُ عَنْهُ أَيْضًا فَضاءٌ عُمومِيٌّ سَلْبِيٌّ يَسْمَحُ بِصُعُودِ تَيّاراتٍ وَتَوَجُّهاتٍ إيدْيولوجِيَّةٍ قَدْ تُزيحُ مَبْدَأَ الدّيموقْراطِيَّةِ نَفْسِها التي ساهَمَتْ في صُعودِها أَوْ تَعْمَلُ على بَعْثَرَةِ المَشْهَدِ السِّياسيِّ لِتَقْديمِ بديلٍ يَسْتَجيبُ لِتَوَجُّهاتِها الإيدْيولوجِيَّةِ، فَنَكُون أَمام دَوْراتٍ تَكْرارِيَّةٍ لإعادَةِ البِناءِ من دونِ القُدْرَةِ على البِناءِ السِّياسِيِّ الفِعْلِيّ.
الوعي يتطلّب المشاركة المؤسّسة بشكل بنيوي تمتد من البنية التحتية إلى الفوقية والعكس صحيح
- يَحْضُرُ هاجِسُ المُمارَسَةِ النَّقْدِيَّةِ في الفَضاءِ العُموميِّ بِشَكْلٍ سَلْبيٍّ في وَعْيِ الأَنْظِمَةِ السِّياسِيَّةِ، فَهِي في الغالِبِ تُحاوِلُ قَدْرَ الإِمْكانِ تَسْييجَ الفِعْلِ بِقَوانينَ تَحْجُبُ فَعّالِيَّتَهُ وَتُقَلِّصُ امْتِدَادِاتِهِ أَوْ فَعَّالِيَّتَهُ، كَأَنَّنا إِزاءَ تَصَوُّرٍ مانَويٍ لِطَبيعَةِ العَلاقَةِ مَعَ النِّظَامِ والشَّعْبِ، وَلَيْس عَلاقَةً تَمْثِيلِيَّةً تُعَبِّرُ عَنْ مُمارَسَةٍ ديموقْراطِيَّةٍ مُسَلَّمٍ بِها.
- لا يُعْتَبَرُ الفَضاءُ العُمومِيُّ فَضاءً مُضادًّا لِلدَّوْلَةِ أَوْ هادِمًا لَها، بِقَدْرِ ما نَرْسِمُهُ فَضاءً لِمُمارَسَةِ الوَعْيِ السِّياسيِّ بِشَكْلٍ عَلَّنيٍ، أَيْ الإِطَارِ السّوسيوسِياسيِّ الذي يَتِمُّ مِنْ خِلالِهِ وَعَبْرَهُ التَّواصُلُ الحُرُّ من دونِ عَراقيلِ الرَّقابَةِ، والذي يَكونُ مَوْضوعُهُ التَّنْظيمُ السِّياسيُّ الذّاتِيُّ، أَيْ تَحْسينُ الصِّحَّةِ السِّياسِيَّةِ لِلدَّوْلَة. وَواَضِحٌ أَنَّ هَذا الوَعْيَ يَتَطَلَّبُ المُشَارَكَةَ المُؤَسَّسَةَ بِشَكْلٍ بُنْيَوِيٍ تَمْتَدُّ مِنْ البُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ إلى الفَوْقِيَّةِ والعَكْسُ صَحيح.
- على الرَّغْمِ من أَنَّ عَمَلِيَّةَ الرَّقابَةِ السِّياسِيَّةِ لِلْفَضاءِ العُموميِّ تُنْتِجُ نَوْعًا مِنْ تَضَخُّمِ الفَضاءِ الخَاصِّ لَدى الجُمْهورِ، إلّا أَنَّ هَذا التَّضَخُمَ لا يُعَبِّرُ بِمَعْنًى ما، عَنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ السِّياسِيَّةِ وَلا يَنْفي ذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّ هَذا التَّضّخُّمُ قَدْ يُغَلِّبُ التَّراكُمَ الانْفِعُالِيَّ الذي يُنْذِرُ بِمَوْجاتِ غَضِبٍ مُتَفَرِّقَةٍ لا تَسْتَطيعُ تَأْطيرَ رُؤْيَةٍ وازِنَةٍ تُفيدُ الصِّحَّةَ السِّياسِيَّةَ بِشَكْلٍ عام.
(خاص "عروبة 22")

