وجهات نظر

الدولة الوطنية ومعضلة إدارة التنوّع

خلص المقال السابق إلى أنّ معضلة إدارة التنوع الاجتماعي تمثّل تحديًا وجوديًا للدولة الوطنية، وبالتالي فإنّ حلّ هذه المشكلة يمثّل شرطًا ضروريًا للحفاظ على العروبة وتجديدها وعدم الاستعاضة عنها، سواءً بانتماءات أوّلية عرقية ودينية وقبلية ضيقة، أو بولاءات عبر قُطرية واسعة.

الدولة الوطنية ومعضلة إدارة التنوّع

الأصل في معضلة إدارة التنوّع هو غياب الديمقراطية، وتعامُل النخب الحاكمة مع مكوّنات المجتمع من خلال تقسيمها إلى أغلبية وأقليات عددية. ومفهوم الأقلية هو مفهوم يتنافى مع مفهوم المواطنة لأنه يؤدي إلى التمييز بين أفراد المجتمع وفق نسبتهم إلى إجمالي السكان، بينما أن جوهر المواطَنَة هو المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع. والمجتمعات الديمقراطية لا تستخدم مفهوم الأغلبية والأقلية إلا بالمعنى السياسي، حيث تشير الأغلبية للحزب أو التيار الذي يشكَل الحكومة، بينما تشير الأقلية للحزب أو التيار الذي يذهب إلى المعارضة.

ومع ذلك فإنّ هناك مجموعة من المتغيّرات التي تتحكّم في موقف النظم غير الديمقراطية من قضية التنوع الاجتماعي، بحيث لا يمكن الجمع بينها جميعًا في سلّة واحدة. أحد هذه المتغيرات هو مستوى الوعي الذي تتحلّى به القيادة السياسية لقيمة التنوّع الاجتماعي، وبالتالي فمع أنّ أحدًا لا يستطيع أن يدّعي ديمقراطية نظام حكم جمال عبد الناصر، إلا أنّ الثابت أيضًا أنّ موقفه من القضية الكردية كان موقفًا تقدّميًا بكل المقاييس، وأنه كان يعتبر الحكم الذاتي حلًا ممكنًا لتلك القضية، والذي يطالع أدبيات الأكراد أنفسهم يلمس كيف انعكس تفهّم عبد الناصر لخصوصيّتهم القومية على التفافهم من حوله إلى حدّ الاستعداد للتطوّع في صفوف الجيش المصري إبّان العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦.

كلّما ضاقت مساحة الاختلاف زادت القدرة على التكيّف معه وتقبَله

وفي المقابل، ومع أن حزب البعث نشأ في الأصل على يد مجموعة ممن يُطلق عليهم مصطلح أقليات، ورغم أنّ العراق أخذ بتجربة الحكم الذاتي للأكراد في عام ١٩٧٤ أي في وقت كان محظورًا على أكراد تركيا حتى إطلاق أسماء كردية على مواليدهم، إلا أنّ تفريغ تجربة الحكم الذاتي الكردي من محتواها وتثبيت اعتماد إقليم كردستان على المركز في بغداد سرعان ما أدّى إلى تجدّد التمرّد الكردي. وكان هذا التمرّد هو الذي اضطرّ العراق لتوقيع اتفاقية الجزائر في عام ١٩٧٥ وتنازل بمقتضاها عن جزء من شط العرب لصالح إيران مقابل أن توقف دعمها للمتمرّدين الأكراد، ثم تطوّر الأمر إلى حرب الثمان سنوات.

وبطبيعة الحال يمكن اعتبار التطرّف الديني هو الوجه الآخر للتطرّف القومي، وبالتالي فإنّ انفصال جنوب السودان كان نتيجة طبيعية لنظام الرئيس عمر البشير وحُكم حزب المؤتمر الوطني الذي أدار علاقة الشمال بالجنوب من منظور صراعي، وأسقط على هذا الصراع مفهوم الجهاد الإسلامي واضعًا الشمال المؤمن في مواجهة الجنوب الملحد، ومبشّرًا مقاتلي الشمال بـ"الحور العين" عند "الشهادة".

الخارج لا يستطيع التلاعب بورقة التنوّع الاجتماعي ما لم توجد بيئة تسمح بهذا التلاعب

ومن المتغيّرات الأخرى ما يتعلّق بدرجة الاختلاف أو التمايز بين مكوّنات المجتمع، إذ يمكن القول إنه كلما ضاقت مساحة الاختلاف زادت القدرة على التكيّف معه وتقبَله. وبالتالي فإنّ أحدًا لم يكن يستطيع التمييز بين الزيود والشوافع في اليمن ولا كان أحد يهتم بكون الرئيس علي عبد الله صالح من الشيعة الزيود، وميّزت التفاعل بين سنّة اليمن وشيعته درجة عالية جدًا من التسامح. فقط عندما تطوّرت جماعة الشباب المؤمن إلى جماعة الحوثيين ثم إلى جماعة أنصار الله وتقاربت مع إيران وتطلعّت للاستيلاء على السلطة، تعقّد الأمر بشدّة. وساعد على زيادة هذا التعقيد التقارب الكبير في نسبة السنّة إلى الشيعة في اليمن ما يجعل توازن القوة بينهم شديد الحساسية لكلّ تغيير يلحق بالوضع السياسي لأيٍ من الجماعتين. ومسألة العدد هذه يمكن اعتبارها متغيّرًا ثالثًا في العلاقة بين عدم الديمقراطية وسوء إدارة التعدّد، وهي تفسّر لنا جزئيًا لماذا ظلّ أمازيغ ليبيا في حالة سكون نسبي قبل عام ٢٠١١، مقارنةً بأمازيغ الجزائر، وبالذات من إقليم القبائل، وذلك على الرغم من النقلة النوعية في وضعهم كجزء من تحوّل أشمل بدأ في عام ١٩٨٩، وصولًا إلى الاعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية في عام ٢٠١٦. فمع أنه لا توجد إحصائيات رسمية لنسبة العرب إلى الأمازيغ في الجزائر، إلا أنّ هذه النسبة تقترب من ٢٠٪؜ بينما تقترب نسبة أمازيغ ليبيا من ١٠٪؜ من إجمالي السكان.

حتى هذه النقطة من التحليل، نلاحظ أنّ المقال ركّز على نفي العلاقة الميكانيكية بين عدم ديمقراطية النظام السياسي من جهة، ومواجهته مشكلة في إدارة التنوّع الاجتماعي من جهة أخرى، وقام باستعراض بعض المتغيّرات الوسيطة التي يمكن أن تجمّد أو تؤجّل تلك المشكلة. أي أنّ المقال عوّل بالأساس على الداخل في ظهور المشكلة أو في اختفائها، وهذا ينبع من قناعة كاتبة المقال أنّ الخارج لا يستطيع التلاعب بورقة التنوّع الاجتماعي ما لم توجد بيئة تسمح بهذا التلاعب وتساعد عليه. وبالتالي فإنّ توظيف إيران أو الولايات المتحدة أو فرنسا أو إسرائيل أو أثيوبيا الأوراق الكردية والشيعية والأمازيغية والسودانية الجنوبية على التوالي، كان مبعثه عدم قدرة الداخل على تحييد المؤثرات الخارجية. وهذا ينقلنا بالتالي لاستعراض بعض الحلول المطروحة لتعامل الدول مع تعدديتها الاجتماعية، وموقع تلك الحلول من سياسات الدول العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن