الفساد وسبل الإصلاح

الانْتِخاباتُ المِصْرِيَّةُ ومُعْضِلَةُ الدّيموقْراطِيَّةِ العَرَبِيَّة!

بَلَغَتِ الدّيموقْراطِيَّةُ اللّيبيرالِيَّةُ في نَموذَجِها التَّمْثيليِّ حَدًّا من الإِنْهاكِ لم تَعُدْ مَعَهُ كما كانَتْ قَبْلَ ثُلُثِ قَرْن، تِلْكَ الأَيْقونَةُ التي يُنْظَرُ إلَيْها باعْتِبارِها نِهايَةَ التّاريخ. فعلى الرَّغْمِ من أنَّ القِيَمَ الجَوْهَرِيَّةَ التي تَبْتَغيها من قَبيلِ تَرْشيدِ القَرارِ السِّياسيّ، والإِدارَةِ السِّلْمِيَّةِ للتَّنَوُّعِ الدّينيِّ والقَوْميِّ في الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّة، لا تَزالُ عَقْلانِيَّةً وإنْسانِيَة، فَإِنَّ ضُغوطًا كَثيفَةً أخَذَتْ تُهاجِمُها في أَرْبَعَةِ أنْحاءِ الجُغْرافْيا العالَمِيَّةِ من زاوِيَةِ الفَضاءِ التَِكْنولوجيِّ ووَسائِطِ التَّواصُلِ الاجْتِماعيِّ تارَةً، ومن النَّزْعاتِ اليَمينِيَّةِ والشَّعْبَوِيَّةِ تارَةً أُخْرى، مُضافًا إلَيْها في تارَةٍ ثالِثَةٍ آفَةُ الاسْتِبدادِ السِّياسيِّ التَّقْليديّ، القارَّةُ في الفَضاءِ العَرَبيِّ بِالذّات، والتي تَتَجلَّى مِرارًا وتِكرارًا سَواءً في الثَّوْراتِ المُجْهَضَةِ كَالرَّبيعِ العَرَبيّ، أو في الانْتِخاباتِ المُزيَّفَةِ كالتي تَجْري الآنَ وتُثيرُ الزَّوابعَ في مِصْر.

الانْتِخاباتُ المِصْرِيَّةُ ومُعْضِلَةُ الدّيموقْراطِيَّةِ العَرَبِيَّة!

لَقْدْ اعْتَرَفَ الرَّئيسُ المِصْرِيُّ نَفْسُهُ بِخُروقِ الجَوْلَةِ الأولى من الانْتِخاباتِ البَّرْلَمانِيَّة، وأَلْقى الكُرَةَ في مَلْعَبِ اللَّجْنَةِ العُلْيا المُشْرِفَةِ عَلَيْها. كذلكَ اعْتَرَفَتِ اللَّجْنَةُ بالتَّزْويرِ ضِمْنًا عِنْدَما قرَّرَتْ إِعادَةَ الانْتِخاباتِ في 19 دائِرَةً فَرْدِيَّة، واعْتِمادَ فَوْزِ مُرشَّحي القائِمَةِ الوَطَنِيَّة.

النظام الانتخابي ظالم لاعتماده على نظام مسكون بروح الهيمنة والإقصاء

المُفارَقَةُ أنَّ الجَوْلَةَ الثّانِيَةَ كانَتْ أَكْثَرَ سوءًا باعْتِرافِ المَحْكَمَةِ الإِدارِيَّةِ العُلْيا التي قَبِلَتِ الطُّعونَ في نَتائِجِ 30 دائِرَةً كامِلَة. والحَقيقَةُ أَنَّ إعادَةَ الانْتِخاباتِ في أيِّ عَدَدٍ من الدَّوائِرِ لن يَكْفِيَ لإضْفاءِ الشَّرْعِيَّةِ على البَّرْلَمانِ المِصْريِّ القادِم، ولو في الْحَدِّ الأدْنى، الذي تَوافَرَ لبَرْلَماناتٍ سابِقَة. يَرْجِعُ ذلك إلى أنَّ تِلْكَ اللَّجْنَةَ العُلْيا، التي تَساهَلَتْ في ضَبْطِ العَمَلِيَّةِ الانْتِخابِيَة، لا يُمْكِنُ أن تُؤتَمَنَ عَلَيْها مُجَدَّدًا، لأنَّ مَن أفْسَدَ شَيْئًا لَيْسَ هو الأَقْدَرَ على إِصْلاحِه.

أمَّا الأَمْرُ الأهَمُّ فهو أنَّ العَمَلِيَّةَ الانْتِخابِيَّةَ في كُلِّ جَوْلاتِها مُزَيَّفَةً قَبْليًا، بِغَضِّ النَّظَرِ عن نَتائِجِها البَعْدِيَّة، وَذَلِكَ لِدافِعَيْنِ رَئيسِيَّيْن:

- الدّافِعُ الأوَّلُ هو طَبيعَةُ النِّظامِ الانْتِخابيِّ السَّيِّئِ والظّالِم. فَهُوَ ظالِمٌ لاعْتِمادِهِ على نِظامِ القائِمَةِ المُغْلَقَةِ المُطْلَقَةِ المَسْكونِ بِروحِ الهَيْمَنَةِ والإقْصاء، فَأَيُّ حِزْبٍ/تَكَتُّلٍ يَحْصُلُ على الأغْلَبِيَّةِ البَسيطَةِ (50% + 1) من أصْواتِ الدّائِرَةِ الانْتِخابِيَّةِ يَفوزُ بِكُلِّ مَقاعِدِها، لِيَخْرُجَ الباقونَ خالِيِي الوِفاض.

الأحزاب بوابة الديموقراطية يتعين ترسيمها طريقًا وحيدًا لحيازة السلطة

إنَّهُ نِظامٌ يُجافي العَقْلَ والعَدْل، يُكَرِّسُ سَيْطَرَةَ الأَقْوى. وَهُوَ سَيِّئٌ لاعْتِمادِهِ على التَّرَشُّحِ الفَرْديّ، الذي لا يُسُهِمُ في تَطْويرِ الثَّقافَةِ السِّياسِيَّةِ ودَعْمِ المُمارَسَةِ الحِزْبِيَّة، بَلْ يَقْضي على الأَحْزابِ المُفتَرَضِ أَنَّها الوَحْداتُ الأَساسِيَّةُ للتَّنافُسِ على السُّلْطَة، وتَبادُلِها سِلْمِيًا. هذا التَّنافُسُ لا يُمْكِنُ أن يَكونَ مُجْدِيًا إلَّا بين رُؤًى فِكْرِيَّةٍ وتَصوُّراتٍ إيدْيولوجِيَةٍ مُخْتَلِفَةٍ حَوْلَ قَضايا العَمَلِ العامِّ كافَّةً التي تَسْتَقْطِبُ اهْتِمامَ الجُمْهورِ وتَدْعوهُ للمُشارَكَةِ في الانْتِخابات، يَحْدوهُ الأَمَلُ في أن يُحَقِّقَ العَمَلُ السِّياسِيُّ بَعْضًا من أَهْدافِهِ وتَوَقُّعاتِه، فَمِنْ دونِ ذلك الأَمَلِ تَموتُ المُشارَكَة، وَلَعَلَّ هذا يُفَسِّرُ لِماذا جَرَتِ الانْتِخاباتُ من دونِ أَدْنى اهْتِمامٍ جَماهيريّ!؟.

أَكْبَرُ الحُجَجِ التي تُساقُ لِتَبْريرِ نِظامِ الانْتِخابِ الفَرْديِّ هي ضَعْفُ الأَحْزاب، وعَجْزُها عن مُمارسةِ دَورِها، وهي حُجَّةٌ بَليدَةٌ ومُضَلِّلَة. فمن دونِ اعْتِمادِ القائِمَةِ النِّسْبِيَّة، تَظَلُّ الأحْزابُ تُراوِحُ في مَكانِها على هامِشِ العَمَلِيَّةِ الانْتِخابِيَّة، حَيْثُ تَسودُ النَّزَعاتُ القَبَلِيَّةُ والعَشائِرِيَّة، ويُسَيْطِرُ المالُ السِّياسِيّ.

إنَّ الأحْزابَ ضَعيفَةٌ حَقًّا، لَكِنَّها تَظَلُّ بوَّابَةَ الدّيموقْراطِيَّة، يَتَعَيَّنُ تَرْسيمُها في قَلْبِ النِّظامِ السِّياسيّ، طَريقًا وَحيدًا لحِيازَةِ السُّلْطَة، أو لِمُمارَسَةِ المُعارَضَةِ البَنَّاءَة. فَطالَما اسْتَمَرَّ الطَريقُ إلى البَرْلَمانِ مُمَهَّدًا للمُرَشَّحِ الفَرْديّ، فما الذي يُغْريهِ بِالانْضِمامِ لِحِزْبٍ سِياسيّ، يَدْفَعُ لَه اشْتِراكًا، ويَتَحَمَّلُ فيه مَسْؤولِيّاتٍ يَقْتَضيها وُجودُهُ ونَشاطُه.

الأصل في التمثيل البرلماني هو المنافسة بين فرقاء سياسيين وليس تمكين فريق سياسي بعينه

- الدّافِعُ الثّاني يَتَعَلَّقُ بِفِكْرَةِ القائِمَةِ الوَطَنِيَّة، التي تَضُمُّ الأحْزابَ الأساسِيَّةَ وتُحَدِّدُ سَلَفًا عَدَدَ مُمَثِّليها وأَدْوارَهم، عَبْرَ مُساوَماتٍ شاقَّةٍ تَحْتَ إِشْرافِ أَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ الأمْنِيَّة. وَبِاكْتِساحِها المَنْطِقيِّ الانْتِخاباتِ تَتَحَوَّلُ العَمَلِيَّةُ الانْتِخابِيَّةُ تِلْقائِيًّا من مُنافَسَةٍ حُرَّةٍ حَوْلَ بَرامِجَ سِياسِيَّةٍ وتَوَجُّهاتٍ فِكْرِيَّةٍ تَحْسِمُها مُيولُ النّاخِبين، إلى عَمَلِيَّةٍ إِدارِيَّةٍ تَنْظيمِيَّةٍ تَرْسُمُ مَعالِمَها السُّلْطَة، فَتَفْقِدُ مَغْزاها، ويُصْبِحُ البَرْلَمانُ النَّاتجُ عَنْها مُزَّيفًا من الأَصْل، حَتّى لو صَحَّتْ إِجْراءاتُها أو تَراجَعَتْ حالاتُ التَّزْويرِ المُباشِرِ فيها؛ فَالأَصْلُ في التَّمْثيلِ البَرْلَمانيِّ هو المُنافَسَةُ بين فُرَقاءَ سِياسيِّينَ ولَيْسَ تَمْكينَ فَريقٍ سِياسيٍّ بِعَيْنِه.

ولذا فَإِنَّ تَشْكيلَ هَكَذا قائِمَةٍ بِذَريعَةِ خَلْقِ تَيّارٍ وَطَنيٍّ داعِمٍ للرَّئيس، إنَّما يَنْطَوي على سَلْبِيَّتَيْنِ رَئيسِيَّتَيْنِ:

- أُولاهُما تَخْوينُ كُلِّ مَن هم خارِجَ القائِمَة، وَكَأَنَّ المُعارَضَةَ السِّياسِيَّةَ تَعْني انْعِدامَ الوَطَنِيَّةِ وهو فَهْمٌ قاصِر، إذ يَحْتاجُ الرَّئيسُ إلى المُعارَضَةِ الرَّشيدَةِ أَكْثَرَ مِمّا يَحْتاجُ إلى التَّأْييدِ الأَعْمى، والحُكومَةُ يَخْدِمُها بَرْلَمانٌ يُصَوِّبُ تَوَجُّهاتِها ولا يُبَرِّرُ خَطاياها.

ثانِيَّتُهما تَأْميمُ السِّياسَةِ كَفِعْلٍ حَيَويٍّ جادّ، وتَحْويلُها إلى فِعْلٍ روتينيٍّ وتَنْظيميّ، يَجْعَلُ أَعْضاءَ البَرْلَمانِ المُنْتَخَبينَ أشْبَهَ بِالمُعَيَّنين، خاصَّةً أنَّ جُلَّ رِجالِ القائِمَةِ الوَطَنِيَّةِ المُوَحَّدَةِ من رِجالِ السُّلْطَةِ السّابِقين، الذين لَعِبوا أدْوارَهُم في خِدْمَتِها، ما يَعْني غِيابَ التَّجْديدِ وتَكلُّسَ النُّخْبَةِ السِّياسِيَّة، وإِعاقَةَ الدّيموقْراطِيَّةِ في البَلَدِ العَرَبيِّ الأَعْرَقِ في مُمارَسَتِها، والأَكْثَرِ حِيازَةً لمُتَطَلَّباتِها، خُصوصًا تَجانُسَهُ الوَطَنِيَّ والاجْتِماعِيّ.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن