وجهات نظر

سوريا و"السّلام الإبراهيمي"!

لا يُفهم ما يحدث في سوريا إلاّ بقراءةٍ متأنّيةٍ لمخطّط إعادة تشكيلٍ إقليميّ واسعٍ تُهندسه أميركا وتُنفّذه إسرائيل بخلق تحالفاتٍ استراتيجيةٍ جديدةٍ يُلخِّصُها مشروع "السّلام الإبراهيمي". لا يهدف هذا المشروع إلى خلق فرصٍ لتطبيع العلاقات الثنائيّة بين إسرائيل ودول عربيّة فقط، بل يجتهد في خلط الأوراق لتسهيل مأمورية إعادة ترتيب المنظومة الجيوسياسية في المنطقة، تنتهض فيها إسرائيل بدور المحور المركزي أمنيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط الموسّع. وهذا ما يُفْهَمُ من اندفاع إسرائيل وهي تفكّك أو تُدجّن الدّول الممانعة لخطتها في المنطقة. وأشدّ ما بات يريحها تأمين الموقع الجيوستراتيجي السوري لصالحها بعد أن تفكّكت رابطة سوريا الأخلاقية والسياسية بـ"محور المقاومة" في مواجهة الاندماج الإسرائيلي.

سوريا و

وعليه، أصبحت الحرب في سوريا بكلّ البشاعات الدّاخليّة التّي تشهدها، جسرًا غير مشروعٍ لإعادة تركيب الدولة على نحوٍ يخدم الاستراتيجية الأمنيّة التي تُمَنِّعُ أمن إسرائيل واستقرار الأنظمة المتحالفة معها كأولويةٍ قصوى. وهذا ما أشار إليه تقرير مركز "بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجيّة"، الذي نصّ على أنّ سوريا المفكّكة هاجس إسرائيلي، تشوّقت تل أبيب إلى تحقيقه منذ زمنٍ طويل. لذلك، فمنذ 2013، كَثَّفَتْ إسرائيل من ضرباتها الجوّيّة داخل سوريا مستهدفةً المراكز الإيرانية ومواقع "حزب الله"، وأجّلت إسقاط النظام السّوري باعتباره في وضعيةٍ سياسيةٍ هشّةٍ يسهل التفاوض أو التعامل معه، إلى حين. وهذا ما أكّد عليه إيال زيسر في دراسته حول التوازنات الإسرائيلية – السّورية بعد الثّورة.

تذويب الذاكرة السياسية التحرّرية وفق منطق براغماتيّ يُروّج لخطاب التيئيس والاستسلام

إنّ تواطؤ إسرائيل مع الغرب وبعض الدّول الإقليميّة، في ظلّ استمرار الأزمة، يأتي من منطلق حساباتٍ سياسيةٍ ترى سوريا ميدانًا مفتوحًا للحرب بالوكالة، تختبر فيه إمكانات إعادة تشكيل خرائط النّفوذ بعيدًا عن أيّ نيّة في حلّ النّزاع أو إنهاء الاحتلال. هكذا يصبح الصّراع السّوري امتدادًا خفيًّا لأهداف "السلام الإبراهيمي" بالإبعاد القَسْريّ لدمشق إلى حين دمجها في نطاق الهيمنة. من ثمّة، يغدو "السلام الإبراهيمي" كتمويهٍ سياسيّ للتطبيع والمحو السياديّ في الآن عينه. ويقوم على خلفية أمنيّة تروم السيطرة بمراجعة مفاهيم العدو والصديق، تصبح من خلالها إيران و"حماس"، لا الاحتلال هما العدوّان الأوّلان؛ كما تروم تنميط القضايا العربية الكبرى في "بروباغندا" سياسيةٍ تتمحور حول استقرار الأنظمة ومكافحة التطرّف.

يهدف هذا التصوّر إلى تذويب الذاكرة السياسية التحرّرية وفق منطقٍ براغماتيّ يُروّج لخطاب التيئيس والاستسلام كمداخل لمراجعة معنى المصلحة العربية في ضوء المصلحة الإسرائيلية. من هنا فإعادة تأهيل النظام السوري اليوم، كما تراه بعض الدول الغربية والعربية، يظلّ مشروطًا بمضمون ضمنيّ بقبول إسرائيل كفاعلٍ مِحوريّ في المشروع الكبير للشرق الأوسط. وهنا، يُقدّم "السلام الإبراهيمي" نفسَه كمحوٍ مزدوج؛ محو للحقّ الفلسطيني في التحرّر، ومحو لحقّ الشعوب العربية في ممارسة سيادتها وتحديد مصيرها.

إنّ هذا السلام لا يقتضي توقيف الحروب وإنهاءها، بل استثمارها في أفق بناء نظامٍ إقليميّ مختلفٍ يُرسّخ الهيمنة الإسرائيلية ومعانيها للأمن والسلام.

تحوّل سوريا إلى ورقة تفاوض في اللعبة السياسية على طاولة الهندسة الإسرائيلية

في هذا السّياق، تتقاطع الأزمة السورية مع مشروع "السلام الإبراهيمي"، وهذا ما يؤشّر إليه تحوّل سوريا من دولةٍ فاعلةٍ سياسيًا إلى ورقة تفاوضٍ حاسمةٍ في اللعبة السياسية على طاولة الهندسة الإسرائيلية. وعليه، يمكن تصوّر أربعة سيناريوات ممكنة:

أولًا، توسّع تدريجي لـ"السلام الإبراهيمي" متماشيًا مع إعادة تأهيل سياسي محدود للنظام السّوري.

ثانيًا، استمرار بقاء سوريا في حالة تفكّك وضعف تحت الغطرسة الإسرائيلية.

ثالثًا، احتمال حدوث تطبيع علني بين سوريا وإسرائيل تحت غطاء اقتصادي تديره وساطات عربية.

رابعًا، انفجار داخليّ قد تكون له امتدادات في بعض دول الجوار، ممّا يربك المخطّط التطبيعي بأكمله!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن