إِذا بَدَأْنا بِالنَّظَرِ إلى مَكانَةِ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَأَهَمِّيَّتِهِ مِنَ المَنْظورِ الأَميرْكِيّ، فَسَوْفَ نَجِدُ أَنَّهُ في اسْتْراتيجِيَّةِ 2017 تظْهَرُ المنطقةُ بِوَصْفِها مِنْطَقَةً ذاتَ أَوْلَوِيَّةٍ اسْتْراتيجِيَّةٍ مُرْتَفِعَة، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْكَزَ اهْتِمامِ النِّظامِ الدَّوْليِّ كَما كانَت في المَرْحَلَةِ التي أَعْقَبَتْ هُجومَ 11 سِبْتَمْبِر/أَيْلول حَيْثُ احْتَلَّتْ مُكافَحَةُ الإِرْهابِ صَدارَةَ الِاهْتِمامِ العالَمِيّ.
الشرق الأوسط لم يعد مصدر التهديد الرئيسي للأمن القومي الأميركي
نَظَرَتِ الوِلاياتُ المُتَّحِدَةُ إلى المِنْطَقَةِ على أَنَّها مَصْدَرُ تَهْديدٍ أَمْنيٍّ مُباشِر، لِثَلاثَةِ أَسْبابٍ هِيَ انْتِشارُ الحَرَكاتِ الجِهادِيَّة، وَتَوَسُّعُ النُّفوذِ الإِيرانِيّ، وَأَمْنُ الطّاقَةِ العالَمِيّ. وَأَدّى ذَلِكَ إلى الرَّبْطِ بَيْنَ الاسْتِقْرارِ الإِقْليميِّ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَالأَمْنِ القَوْميِّ الأَميرْكِيّ، فَالشَّرْقُ الأَوْسَطُ يُمَثِّلُ مَنْطِقَةً أَمْنِيَّةً تَزْخَرُ بِالمَخَاطِر، مِمّا يَتَطَلَّبُ الرَّدْعَ وَالحُضورَ العَسْكَرِيَّ المُباشِر.
تَراجَعَتْ أَهَمِّيَّةُ المِنْطَقَةِ تَدْريجِيًّا في اسْتْراتيجِيَّةِ عامِ 2022، وَإِنْ حَافَظَتْ على أَهَمِّيَّتِها الوَظِيفِيَّة. وَحَسَبَ الاسْتْراتيجِيَّة، فَإِنَّ الشَّرْقَ الأَوْسَطَ لَمْ يَعُدْ مَصْدَرَ التَّهْديدِ الرَّئيسيِّ لِلأَمْنِ القَوْميِّ الأَميرْكِيّ، وَتَحَوَّلَتِ الأَهَمِّيَّةُ إلى كُلٍّ مِنَ الصّينِ وَروسيا، الأولى بِاعْتِبارِها مُنافِسًا اقْتِصادِيًّا وَتِجارِيًّا يَمْتَلِكُ مُقَوِّماتِ القُوَّةِ الشامِلَةِ اللّازِمَةِ لِتَحَدّي المَكانَةِ العالَمِيَّةِ لِأَميرْكا، وَالثّانِيَةُ بِاعْتِبارِها تَهْديدًا عَسْكَرِيًّا مُباشِرًا لِأوروبا وَخُصوصًا في ضَوْءِ حَرْبِها مَعَ أوكْرانْيا.
استراتيجية 2025 شكّلت نقطة تحوّل في الرؤية الأميركية للعالم وأعطت الأولويّة لمنطقة الجوار الجغرافي المباشر
في هَذا السِّياقِ، أَصْبَحَتِ السِّياسَةُ الأَميرْكِيَّةُ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ تَعْمَدُ إلى إِدارَةِ الأَزَمات، وَمَنْعِ التَّصْعيد، وَعَدَمِ السَّماحِ بِتَبَلوُرِ فَراغٍ اسْتْراتيجيٍّ يُؤَدّي إلى ازْدِيادِ نُفوذِ الصّينِ وَروسْيا، أَوْ يُعْطي لَهُما الفُرْصَةَ لِتَوْسيعِ نُفوذِهِما. وَمِنْ ثَمَّ، بَدَأَ الشَّرْقُ الأَوْسَطُ في اسْتْراتيجِيَّةِ 2022، يَبْدو كَمِنْطَقَةٍ يَنْبَغي احْتِواؤُها وَلَيْسَ إِدارَتَها بِشَكْلٍ مُباشِر.
شَكَّلَتِ اسْتْراتيجِيَّةُ 2025 نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ في الرُّؤْيَةِ الِاسْتْراتيجِيَّةِ الأَميرْكِيَّةِ لِلعالَم، فَرَكَّزَتْ في المَقامِ الأَوَّلِ على التَّحَدِّياتِ في الدّاخِلِ الأَميرْكيِّ كَأَمْنِ الحُدودِ وَالاقْتِصادِ وَالتِّكْنولوجْيا، وَأَعْطَتِ الأَوْلَوِيَّةَ لِمِنْطَقَةِ الجِوارِ الجُغْرافيِّ المُباشِرِ وَهِيَ الأَميرْكَتان. في هَذا السِّياقِ، أَفْصَحَتْ عَنْ تَراجُعِ الأَهَمِّيَّةِ الِاسْتْراتيجِيَّةِ لِلشَّرْقِ الأَوْسَط، وَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ مَصْدَرًا لِتَهْديدِ المَصالِحِ الحَيَوِيَّةِ الأَميرْكِيَّة. كَما تَراجَعَتْ أَهَمِّيَّتُهُ كَمُصَدِّرٍ لِلطّاقَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ وَاشِنْطُن مُصَدِّرًا صافِيًّا لَها. وَمِنْ ثَمَّ، أَصْبَحَ مِنَ الضَّروريِّ خَفْضُ تَكْلِفَةِ التَّدَخُّلِ أَوِ الانْخِراطِ في شُؤونِه. وَبَدَلًا مِنْ ذَلِك، بَرَزَ دَوْرُ المِنْطَقَةِ وَخُصوصًا الدُّوَلِ الغَنِيَّةِ في الخَليجِ كَساحَةٍ لِلتَّعاوُنِ الاقْتِصاديِّ وَالشَّراكاتِ التِّجارِيَّةِ وَالاسْتِثْمارِيَّة.
أصبحت إِيران مشْكلة إقليميّة وإسرائيل تظلّ حليفًا رئيسيًا من دون دعم أفكارها التوسُّعية في فلسطين
وَإِذا انْتَقَلنا إلى التَّرْكيزِ على قَضايا مُحَدَّدَة، فَسَوْفَ يَتَّضِحُ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِإِيران مَثَلًا فَإِنَّها ظَهَرَتْ في 2017 على أَنَّها التَّهْديدُ الرَّئيسِيُّ الأَوَّلُ في المِنْطَقَة، وَأَنَّهُ يَنْبَغي التَّعامُلُ مَعَها مِنْ خِلالِ سِياساتِ الضُّغوطِ القُصْوى وَالرَّدْعِ المُباشِر. وَفي 2022، بَدَتْ كَمَصْدَرٍ لِلتَّهْديدِ يَنْبَغي احْتِواؤُهُ ديبْلوماسِيًّا وَعَسْكَرِيّا، وَتَمَثَّلَ ذَلِكَ في الجَمْعِ بَيْنَ الرَّدْعِ وَالمَسارِ التَّفاوُضِيّ. أَمّا في 2025، فَقَدْ أَصْبَحَتْ إِيران مُشْكِلَةً إِقْليمِيَّةً، على دولِ المِنْطَقَةِ مَسْؤولِيَّةُ التَّعامُلِ مَعَها.
وَبِخُصوصِ إِسْرائيل، فَفي 2017، التَزَمَتِ الاسْتْراتيجِيَّةُ بِدَعْمٍ مُطْلَقٍ لَها وَالبَدْءِ في ديبْلوماسِيَّةِ الاتِّفاقاتِ الإِبْراهيمِيَّة. وَفي 2022، اسْتَمَرَّ دَعْمُ إِسْرائيل مَعَ مُحاوَلَةِ ضَبْطِ سُلوكِها، وَرَبْطِ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرارِ الإِقْليمِيّ. أَمّا في 2025، فَتظَلُّ إِسْرائيل حَليفًا رَئيسِيًّا مِنْ دونِ دَعْمٍ لِأَفْكارِها التَّوَسُّعِيَّةِ في فِلَسْطينَ وَأَنَّ أَمْنَها لَيْسَ سَبَبًا كافِيًا لِتَوَرُّطٍ عَسْكَريٍّ أَميرْكيٍّ واسِع.
وَإِذا انْتَقَلنا إلى مَوْضوعِ الدّيموقْراطِيَّةِ وَالتَّدَخُّلِ لِتَغْييرِ النُّظُم، فَفي 2017 تَراجَعَتْ أَهَمِّيَّةُ نَشْرِ الدّيموقْراطِيَّةِ وَالتَّدَخُّلِ الأَميرْكيِّ لِتَغْييرِ النُّظُم. لَكِنْ تَغَيَّرَ الوَضْعُ في 2022، لِتَرْتَفِعَ أَهَمِّيَّةُ الدّيموقْراطِيَّةِ في العالَمِ مَعَ اسْتِمْرارِ رَفْضِ التَّدَخُّلِ لِتَغْييرِ الأَنْظِمَة. وَفي 2025، تَراجَعَتْ أَهَمِّيَّةُ الدّيموقْراطِيَّةِ مَرَّةً ثانِيَةً مَعَ وُضوحٍ أَكْبَرَ لِرَفْضِ سِياسَةِ تَغْييرِ الأَنْظِمَة، وَوَصَفَتِ الِاسْتْراتِيجيَّةُ المُمارَساتِ الأَمِيرْكِيَّةَ السابِقَةَ في هَذا الشَأْنِ بِتَعْبيرِ "التَّجارِبِ الفاشِلَة"، مُؤَكِّدَةً أَنَّ مِفْتاحَ العَلاقَةِ الصَّحيحَةِ مَعَ دُوَلِ المِنْطَقَةِ هُوَ قَبولُ نُظُمِها النّابِعَةِ مِنْ تَاريخِها وَتَقاليدِها كَما هِيَ.
وَإِذا انْتَهَيْنا بِقَضايا الأَمْن، فَمِنْ حَيْثُ الوُجودِ العَسْكَرِيِّ الأَميرْكِيِّ المُباشِرِ فَكانَ في 2017 حُضورُهُ قَوِيًّا وَمُباشِرًا، وَفي 2022 قَلَّتْ أَهَمِّيَّتُهُ لِيَكونَ مَحْدودًا وَمَرِنا، أَمّا في 2025 فَقَدْ تَقَلَّصَتِ الإِشارَةُ إِلَيْهِ بِشَكْلٍ وَاضِح. يَرْتَبِطُ بِذَلِكَ إِمْكانِيَّةُ التَّدَخُّلِ العَسْكَرِيّ، فَاعْتَبَرَتْهُ اسْتْراتِيجيَّةُ 2017 مَقْبولًا وَمُمْكِنًا عِنْدَ الضَّرورَة، وَفي 2022 أَصْبَحَ آخِرَ الحُلولِ بَعْدَ اسْتِنْفادِ الحُلولِ الأُخْرى كافَّة، أَمّا في 2025 فَالمَبْدَأُ مَرْفوضٌ إِلّا في حَالاتِ الضَّرورَةِ القُصْوى عِنْدَما تَتَهَدَّدُ المَصالِحُ الحَيَوِيَّةُ الأَميرْكِيَّة. وَبِخُصوصِ قَضِيَّةِ مُكافَحَةِ الإِرْهاب، فَقَدْ بَرَزَتْ بِوُضوحٍ في اسْتْراتيجِيَّةِ 2017 وَكانَتْ لَها أَوْلَوِيَّةٌ بِحُكْمِ الخَطَرِ الذي مَثَّلَهُ تَنْظيمُ "داعِش" في العِراقِ وَسورْيا، وَاسْتَمَرَّتِ الأَهَمِّيَّةُ في 2022 مَعَ تَراجُعٍ نِسْبيٍّ لَها، أَمّا في 2025 فَقَدِ اعْتَبَرَتْها الِاسْتْراتيجِيَّةُ قَضِيَّةً إِقْليمِيَّةً تَتَوَلّاها دُوَلُ المِنْطَقَةِ وَلَيْسَتْ قَضِيَّةً عالَمِيَّة.
اعتبار الشرق الأوسط مركز الاهتمام في استراتيجية الأمن القومي الأميركي لم يعد قائمًا
هَكَذا، تَطَوَّرَتِ الرُّؤْيَةُ الِاسْتْراتيجِيَّةُ الأَميرْكِيَّةُ لِلمِنْطَقَة، فَكانَتْ في 2017 مِنْطَقَةَ تَهْديدٍ أَمْنيٍّ مُباشِرٍ مِمّا يَتَطَلَّبُ حُضورًا عَسْكَرِيًّا لِلرَّدْعِ وَالتَّدَخُّلِ الانْتِقائِيّ. تَحَوَّلَتْ في 2022 إلى مِنْطَقَةِ إِدارَةِ أَزَمات، يَتِمُّ التَّعامُلُ مَعَها مِنْ خِلالِ الاحْتِواءِ وَمَنْعِ التَّصْعيد. وَفي 2025، تَراجَعَتْ أَهَمِّيَّةُ المِنْطَقَةِ في سُلَّمِ الأَوْلَوِياتِ الأَمِيرْكِيَّة، مَعَ الالتِزامِ بِتَحْقيقِ السَّلامِ مِنْ خِلالِ القُوَّة، مِنْ دونِ تَكْلِفَةٍ مالِيَّةٍ باهِظَةٍ أَوْ تَوَرُّطٍ عَسْكَريٍّ كَبير.
مِنَ الخَطَأِ وَصْفُ هَذا التَّطَوُّرِ بِتَحَوُّلِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ مِنَ الانْخِراطِ في شُؤونِ المِنْطَقَةِ إلى الانْسِحابِ مِنْها، وَلَكِنَّ الأَصَحَّ القَوْلُ بِأَنَّ اعْتِبارَ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ مَرْكَزَ الاهْتِمامِ في اسْتْراتيجِيَّةِ الأَمْنِ القَوْميِّ الأَميرْكيِّ لَمْ يَعُدْ قائِمًا، وَتَحَوَّلَتِ المِنْطَقَةُ إلى ساحَةٍ إِقْليمِيَّةٍ يَتِمُّ التَّفاعُلُ مَعَها مِنْ دونِ اسْتِنْزافِ القُوَّةِ الأَميرْكِيَّة.
(خاص "عروبة 22")

