يُكثر الحديث في مطلع هذا الشهر عن "أغسطس اللهاب"، والمقصود ليس ما يتعلق بطبيعة المناخ وسخونته في هذا الشهر من العام في الشرق الأوسط، وهو أمر طبيعي وغير مفاجئ. ولكن المقصود في التصريحات والتعليقات المتعددة بهذا الخصوص هو المناخ السياسي الأمني العسكري مع وجود عدد من النقاط النزاعية الساخنة والتي تزداد سخونة. وهنالك احتمال مرتفع، كما نسمع من تصريحات ونشهد ما يحدث على أرض الواقع، لتحول هذه السخونة في بعضها أو كلها إلى حرائق أو تصعيد مفتوح في حروب قائمة حاليا بمستوى منخفض نسبيا أو أخرى عائدة أو قادمة.
ما نشهده اليوم هو هدن هشة أو متقطعة. وهنالك ترابط غير مباشر بشكل عام بين النقاط الساخنة، ولو اختلفت درجة سخونتها، في استراتيجيات القوى الأساسية المنخرطة بشكل أو بآخر في هذه الحروب التي تشهد أيضا تصعيدا في المواقف والمطالب المتواجهة. يحصل ذلك في ظل ازدياد حدة الخطاب حول شرق أوسط جديد تجري إقامته، خاصة مع التغيير الذي شهدته سوريا والذي لم يستقر بعد كليا، دون أن تتضح بعد ما هي قواعد وسمات العلاقات التي ستطبع النظام الإقليمي الذي يجري الحديث عن العمل على بلورته.
"النقطة الأولى" تتعلق بحرب الإبادة في غزة والسقف المرتفع للأهداف الإسرائيلية في القطاع التي صرنا نسمع أن من بينها العودة إلى إقامة "حزام عسكري" إسرائيلي لخنق القطاع وإخضاعه كليا ما دامت حرب الإلغاء التي تقوم بها إسرائيل عبر سياسة المجازر والتجويع لم تعطِ النتيجة المطلوبة التي تذكرنا بها كل يوم تقريبا التصريحات الإسرائيلية. نشهد تصعيدا مزدوجا في القوة النارية وأيضا في الجغرافيا مع ازدياد أعمال العنف الإسرائيلية في الضفة الغربية بهدف تسريع عملية الضم عبر سياسة ناشطة لخلق وضع على الأرض ضاغط وطارد للشعب الفلسطيني. جزء من هذه الاستراتيجية يندرج في سياسة استباقية لنسف كل الأسس لإمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة في المستقبل والتي عادت على جدول الأعمال الدولي مع مؤتمر حل الدولتين الذي انعقد في نيويورك مؤخرا.
المؤتمر الذي يعد لإطلاق مسار ليس بالسهل ولكنه بالضروري للتسوية السلمية الشاملة لهذا النزاع التاريخي. القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة في هذا النزاع تعمل حتى الآن تحت سقف منطق الهدن والتسويات الجزئية المؤقتة. الأمر الذي يهدد بحدوث انفجار كبير يزيد بقوة من تعقيدات ولوج مسار التسوية المطلوبة وينعكس بالطبع على الاستقرار والأمن في الإقليم. النقطة الثانية تتعلق بالوضع في لبنان فيما يتعلق باستكمال الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس بداية والإفراج عن الأسرى واستكمال الانسحاب نحو الحدود الدولية للبنان وفق اتفاقية الهدنة للعام 1949 الذي يطالب لبنان بالعودة إليها.
يقابل ذلك إطلاق مسار تدريجي ولكن حازم في تحقيق هدف حصرية السلاح، وبالتالى قرار الحرب والسلم، في يد الدولة اللبنانية. مسار كما نرى أمامه الكثير من العوائق. نشهد "أوراقا" أمريكية تحمل مقترحات أو شروط إسرائيلية بشكل خاص وردود تحمل مقترحات لبنانية. البعض "الدولي" يتحدث عن ضرورة تلازم المسارين (أي تنفيذ ما هو التزامات لإنجاح اتفاق وقف إطلاق الإطار بشكلٍ مواز بين الطرفين). البعض الآخر، وبالطبع الموقف اللبناني الرسمي، يقول بأنه يجب أن يسبق المسار الإسرائيلي، أي تنفيذ ما هو التزامات إسرائيلية، المسار اللبنايى ليس بشكل كلي بالضرورة ولكن بشكل أساسي وتدريجي كما نسمع أيضا.
الواضح أننا ما زلنا في حقيقة الأمر في مرحلة تربيع الدوائر كما يُقال. يحصل ذلك فيما تستمر إسرائيل في حرب الاستنزاف (ما يعرف تحديدا بحرب محدودة) ضد ما تعتبره أهدافا استراتيجية. لكن إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مع غياب أي ضغط دولي ضروري لدفع إسرائيل للبدء بتنفيذ الاتفاق ضمن سلة متكاملة ولو تدريجية فإن احتمال عودة إسرائيل إلى حرب مفتوحة، بقوة نيرانها وتوسع أهدافها وأفقها الزمني، ضد لبنان يبقى أمرا غير مستبعد، دون أن يعني ذلك بالضرورة اجتياح واحتلال من جديد. الأمر الذي يعيد لبنان إلى "المربع الأول" أي إلى الأوضاع الذي كان فيها لبنان قبل وقف إطلاق النار. لا توجد أي مؤشرات جدية حتى الآن تدل على أن "قطار" إحياء اتفاقية الهدنة لعام 1949 قد انطلق فعليا. لبنان ما زال على مفترق طرق وعلى صفيح ساخن بانتظار انطلاق "قطار الحل" المُشار إليه.
النقطة الثالثة تتعلق باحتمال انتهاء التهدئة على الجبهة الإسرائيلية الأمريكية مع إيران بشأن النووي الإيراني، بشكل خاص، وانسداد أفق العودة الجدية إلى المفاوضات في الجولة السادسة المنتظرة ما دام الطرح الأمريكي ما زال يصر على صفر تخصيب نووي لإيران على الأراضي الإيرانية. موقف أمريكي يلاقي الموقف الإسرائيلي القائم منذ إنشاء دولة إسرائيل على حصرية امتلاك إسرائيل للعامل النووي. موقف ترفضه إيران كليا وتعتبره خروجا عن الاتفاقية النووية لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) التي انسحبت منها إدارة ترامب الأولى في العام 2018. البعض يقول إن العودة إلى المفاوضات هذه قد يستدعي إدراجها إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بمقاربة شاملة للعلاقات الغربية الإيرانية. سؤال يبقى قائما دون أن يكون هنالك في المدى المنظور جواب عليه.
هل ستتجه هذه الأزمات نحو الانفجار أو التصعيد المقيد أو تأخذ منحى التهدئة والاحتواء وخفض التوتر نحو حلول ممكنة. سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة.
(الشروق المصرية)