بصمات

المواطَنة المغدورة في العالم العربي!

لئن كان الخطاب العربي المعاصِر يعجّ بمصطلح المواطَنة ومرادفاته، على الرَّغم من تأخّر ظهوره إلى منتصف القرن الماضي حين أصدر خالد محمد خالد كتابه الشهير "مواطنون لا رعايا" سنة 1951، فإنّ واقع الممارسة العربية ــ على النّقيض من ذلك تمامًا ــ ما زال محكومًا ببنيةٍ علائقيةٍ باليةٍ، وأنماط من التمثّلات والممارسات التي تتنافى مع مفهوم المواطَنة، الذي يقوم في جوهره على علاقةٍ تعاقديةٍ بين جميع أفراد المجتمع في علاقاتهم البينيّة ومع السلطة التي اختاروها لإدارة الشأن العام، وتطبيق القوانين على الجميع من دون استثناء وفق معادلة توازنٍ بين الحقوق والواجبات.

المواطَنة المغدورة في العالم العربي!

عندما نتحدّث عن مواطَنةٍ مغدورةٍ، فإنّنا نُحيل ضمنيًا على مفارقةٍ تسمّ الحالة العربية الراهنة. فلئن كانت الدساتير والخطب الرسمية ومختلف الأجهزة الإيديولوجية السائدة لا تفتأ تردّد كلمة المواطَنة بمراسمها المُتعدّدة، فإنّ الممارسات العملية تتعارض مع الحدّ الأدنى لمقتضيات المواطَنة. تستوي في هذا المعطى سلوكيّات عديد التيّارات السياسية والثقافية الفاعلة في المجتمع العربي على الرَّغم من تباين مرجعيّاتها النظرية، فبعضها كثيرًا ما يتغنّى بشعارات العقلانية والتعدّدية والحداثة والمواطَنة، بينما تتنافى ممارساتها تمامًا مع ما تعلنه وتدّعيه. وهذا يعود إلى أنّ الحداثة بمختلف أبعادها الفلسفية والاجتماعية والسياسية ظلّت بهرجًا للزركشة اللفظية والمراسم الرسمية.

لا يمكن التطلّع إلى مواطَنة فاعلة من دون تجاوز الازدواجية التي تسم علاقة القول بالفعل في الواقع العربي

لا يمكن إنكار أنّ منطق العلاقات في المنطقة العربية تُهيمن عليه الولاءات القبليّة والفئوية والقطاعية والزبونية، إذ يستحيل بروز شخصية سياسية أو اجتماعية في إدارة الشأن العام خارج تلك الشبكة العلائقية. لذا لا عجب أن يظلّ النظر إلى السلطة بصفتها غنيمة أو "قصعة طعام" - على حدّ تعبير الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي في أحد مجالسه المضيّقة - ينبغي عدم السماح للمعارضين بالاقتراب منها، لأنّهم لن يكتفوا بالتهام النّصيب المُحدّد لهم، وإنّما سيلتهمون القصعة كلّها.

لعلّ أخطر ما كشفه الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته المنطقة العربية بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، هو هشاشة تجذّر مفهوم المواطَنة عند قطاعٍ واسعٍ من النّخب العربية الفاعلة. إذ كشفت تجربة التحوّل الديموقراطي في تونس ومصر مثلًا تحيّزاتها الإيديولوجية والزبونية، وقدّمتها قبل كلّ مبادئ الشفافية والنزاهة والكفاءة التي لطالما تشدّقت بها وتباكت عليها عندما كانت خارج دائرة الحكم والنفوذ. لذا لم تتحرّج من تعيين المقرّبين منها أو ممّن تفترض قدرتهم على تقديم منافع وخدمات لها مع ضمان طاعتهم وولائهم المُطلق، في مناصب عليا في الدولة على الرَّغم من ماضيهم القريب الزاخر بالانتماء إلى الأنظمة السابقة لسنة 2011.

لا عجب أن يمتدّ ذلك الاختلال القِيَمِي لمفهوم المواطَنة إلى بقية المستويات الأخرى. فعلى الصعيد الاجتماعي، وبقدر ما نجد ترسانةً هامّةً من القوانين والأوامر والاتفاقيات التي تنصّ على ضمان حقوق أصحاب الاحتياجات الخصوصية، ليس في مستوى ضمان حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وحسب، وإنّما كذلك في ضمان مشاركتهم السياسية، فإنّه يوجد بونٌ شاسعٌ يفصل بين تلك التشريعات المتطوّرة (الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وبرتوكولها الاختياري سنة 2006) والواقع المتردّي. إذ ما يزال الكثير من ذوي الاحتياجات الخاصّة يكافحون لنيل الحدّ الأدنى من حقوقهم في وقتٍ يتصاعد فيه التشويه على أساس الإعاقة، وهو ما يستنزف جهودهم لنيل حقوقهم الأساسية.

يمكن للعمل الجمعيّاتي أن يساهم في ترسيخ قيم المواطَنة بدل أن يكون عاملًا من عوامل غدرها

لا يمكن التطلّع إلى مواطَنةٍ فاعلةٍ من دون تجاوز الازدواجية التي تسم علاقة القول بالفعل في الواقع العربي. فلا بدّ من ارتقاء الممارسات إلى مستوى الرهانات المنتظرة أو حتّى إلى مستوى الشعارات المرفوعة في مجال عُلوية تطبيق القوانين على الجميع، وتقويض شبكة العلاقات الاجتماعية الرثّة القائمة على ولاءاتٍ بالية. ولعلّ ذلك ما سيسهم في تغيير نظرة المجتمع إلى السلطة ومفهومه لها. بَيْدَ أنّ كلّ ذلك يحتاج إلى جرأةٍ وجسارةٍ في الإقرار بأنّ مفهوم المواطَنة بصيغته الحديثة نتاج للفلسفة السياسية الحديثة. وهو ما يستدعي جهودًا تنظيريةً جبّارةً قصد تبيئته بدل المخاتلة في البحث عن مماثلاتٍ مستحيلةٍ عمّقت المفارقات القائمة ولم تتجاوَزْها.

كما يمكن للعمل الجمعيّاتي أن يساهم في ترسيخ قيم المواطَنة بدل أن يكون عاملًا من عوامل غدرها، إذا توفّرت له أرضية تشريعية وتمويلية متطوّرة. ففي تونس حاليًا توجد أكثر من خمسٍ وعشرين (25) ألف جمعية، لكنّ جدواها تظلّ محلّ تساؤلٍ كبيرٍ ليس فقط في مدى فعّاليتها، وإنّما كذلك في مستوى حقيقة عدد منخرطيها ومدى التزامها بلوائحها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن