من متابعة ما يسجّله علماء الاجتماع السياسي في بلدان "الهجرة" نخرج بجملة ملاحظات هامة تتعلّق بمهاجرينا العرب في بلدان أوروبا الغربية خاصة (الشأن مغاير نوعًا ما، في بريطانيا وفي دول أوروبا الشمالية، قبل التحاقها بأوروبا العظمى، أما في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كندا، فالأمر مغاير).
من تلك الملاحظات أنّ الأغلبية الساحقة من المهاجرين كانت تقصد دول أوروبا الغربية (فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا - في المراتب الأولى - ثم إيطاليا وإسبانيا بعد ذلك). ومنها أنّ سواد الوافدين يكاد يكون مقتصرًا على الدول العربية في شمال أفريقيا (الجزائر، المغرب، تونس)، في حين أنّ أعداد القادمين العرب من باقي الوطن العربي كانت من القلّة بحيث أنها لا تكاد تستلفت انتباه الدارسين والملاحظين، وهذا من جهة أولى، مثلما أنّ الهجرة عند هؤلاء لم تكن "سعيًا وراء الرزق"، على حدّ تعبير أحد مفكّرينا العرب النابهين، وإنما كانت الأسباب في الأغلب غير ذلك، ولعلّ أبرزها هو الفرار من متابعة الحكّام في الدول التي ينتمون إليها، وهذا من جهة ثانية.
المواطَنة لا تتّصل بالصفة القانونية أو الإدارية وحدها، وإنما هي مسألة ترتبط بالهوية الثقافية وبالوجدان
ومن الملاحظات، الهامة والأساسية كذلك، أنّ السمة التي كانت تغلب على "الجيل الأول" من المهاجرين العرب (حتى منتصف ستينات القرن الماضي) هي الارتباط التام بأرض الوطن وعدم التفكير، خلا حالات نادرة، في اكتساب جنسية البلد الدي تمّت الهجرة إليه. وبالتالي فانّ نعت "الأجنبي" أو "المهاجر طلبًا للرزق" ظلت هي الكيفية التي كان الوعي بالذات يتمّ بها في وعي آباء الجيل الأول. والملاحظة، البارزة للعيان، هي أنّ الأمور ستأخذ في التحوّل مع تفتّق وعي الأبناء الذين سيلدون في "بلد الهجرة". وقد يجب أن نعلم أنّ حمل الجنسية، في غالبية دول أوروبا الغربية، يُعتبر أمرًا طبيعيًا عند كلّ الذين يولدون فوق تراب البلد. كما أنّ المفيد أن ندرك أيضًا أنّ الجنسية التي يحملها الأب (في البلد العربي الدي تمّت الهجرة منه) لا تسقط عن أبناء ذلك الأب وعن عقبه.
المواطَنة الحقّ الكاملة، تلك التي لا تقف عند حدود حمل جواز سفر البلد
لستُ أريد الانسياق مع معاناة المنتسبين إلى الجيل الثاني، والجيل الثالث، على نحو أقلّ، من حيث الصورة التي ترتسم لهم في وطن الأب (حيث تمضي أسرة ذلك الأب عطلها، وحيث تحرص على امتلاك منزل أو قطعة أرض ويكون في مقدمة همومها أن يتمّ دفنها، بعد انصرام الأجل، في تربة الوطن)، فتلك قضايا أخرى، عميقة، وجدانية، متشابكة. أريد، في حديثي اليوم، أن أثير الانتباه إلى جملة مشكلات مدار القول فيها إنّ المواطنة لا تتّصل بالصفة القانونية أو الإدارية وحدها، وإنما هي مسألة ترتبط، أشدّ ما يكون الارتباط، بالهوية الثقافية، وبالتالي بالوجدان. ولعلّ أبلغ برهان على صحة ما نقول هي جملة الصعوبات، النفسية والثقافية، التي تحف بمعنى المواطنة الحقّ عند مهاجرينا العرب، من الأجيال الأربعة المختلفة، مع ما ألمحنا إليه من فروق بين حال كلّ جيل منها.
الحقّ أنّ المواطنة بالنسبة لأبناء هذه الأجيال الأربعة قضية تستدعي النظر إليها من جهتين، من زاويتين متغايرتين تغايرًا يكاد يكون تامًا. الأولى هي جهة "الوافدين" وقدرتهم الفعلية على الاندماج وجدانيًا، وبالتالي ثقافيًا، في البلد الدي يحملون فيه صفة الجنسية. والجهة الثانية هي أهل البلد "الأصليون" وقدرتهم، الوجدانية والثقافية، على إكساب القادمين صفة المواطنة الحقّ، المواطنة الكاملة، تلك التي لا تقف عند حدود حمل جواز سفر البلد.
(خاص "عروبة 22")