وجهات نظر

رؤيةُ بورْقيبَة للصُّهْيونِيَّةِ فِكْرًا ومُمارَسَةً!

عُرِفَ الحبيبُ بُورْقِيبَة (1903-2000) في المَشْرِقِ العربيِّ خاصّةً بَعْدَ خطابِ أريحا (مارس/آذار 1965) بِدَعْوَتِهِ الفِلَسطينِيّينَ إلى الاعترافِ بقرارِ التقسيمِ الأُمَمِي 181 كمرحلةٍ من مراحلِ تحقيقِ الأهدافِ الاسْتْراتيجِيَّةِ للقضيةِ الفلسطينيَّة. وَكانَ بورقيبة على إِدْراكٍ باستحالةِ حُصولِ الفلسطينيّينَ على جميعِ حُقوقِهِمْ دُفْعَةً واحدةً، لَيْسَ نتيجةَ اختلالِ مَوازينِ القُوَى بَيْنَ طَرَفَيّ الصِّراعِ وَحَسْبُ، وَإِنَّما نتيجةَ الالتزامِ السّياسيّ و"الأَخْلاقيّ" للعالمِ الغربيِّ والاتّحادِ السوفياتيّ ودولِ الكُتْلَةِ الشَّرْقِيَّةِ باستمرارِ "إسرائيلَ" في الوجودِ والحفاظٍ على كِيانها.

رؤيةُ بورْقيبَة للصُّهْيونِيَّةِ فِكْرًا ومُمارَسَةً!

جُوبِهَ خِطابُ بُورْقِيبَة ذاكَ بِمُعارَضَةٍ رسميةٍ وشعبيةٍ، بَلْ اتُّهِمَ الرجلُ بالعمالةِ والخيانةِ، في حين أَهْمَلَتْ الدولُ الغربيَّةُ الاهتمامَ بِه. وَبِغَضِّ النَّظَرِ عن ذَلِكَ، يُعْتَبَرُ بورقيبة من بَيْنِ القياداتِ العربيةِ القليلةِ التي كانَتْ على دِرايَةٍ وَمَعْرِفَةٍ دَقيقَةٍ بالحركةِ الصُّهْيونِيَّةِ فِكْرًا وَمُمارَسةً اعتبارًا لِخَلْفِيَّتِهِ الثقافيةِ والحقوقيَّةِ واحتكاكهِ ببعض النُّخْبَةِ اليَهودِيَّةِ في تونِسَ أو باريسَ، حَيْثُ أقامَ وَدَرَسَ وعايَشَ مُخْتَلَفَ الاتجاهاتِ السّياسيّةِ في باريسَ لفترةٍ غَيْرِ قَصيرَة. كَما سَمَحَتْ لَهُ الإقامةُ في القاهرةِ (1945-1949) بِالتَّعَرُّفِ أكثرَ إلى القضيةِ الفلسطينيةِ من خلالِ التَّفاعُلِ مَعَ بَعْضِ القياداتِ الفلسطينية.

وَلِتِلْكَ الأسبابِ وغيرِها تمَّ تكليفُهُ، من قِبَلِ زعماءِ الحركةِ الوطنيّةِ في المغربِ العربيّ، وَمِنَ اللّاجِئينَ في القاهرةِ، من أَجْلِ صِياغَةِ مُذَكِّرَةٍ لتقديمِها إلى اللّجنةِ الأَنْغْلو-أَميرْكِيَّةِ التي كُلِّفَتْ بدراسةِ أوضاعِ فلسطينَ المُتَعَلِّقَةِ بالهجرةِ اليهوديةِ وتأثيرِها في العرب. وَمِنْ خِلالِ خُطَبِهِ وتلكَ المذكّرةِ التي صاغَها بورقيبة قدّمَ رُؤْيَةً دقيقةً حَوْلَ طبيعةِ الصُّهْيونِيَّةِ وأهدافِها، حيثُ مَيَّزَ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ بَيْنَ الصهيونيةِ باعتبارِها مَذْهَبًا سِياسِيًّا، واليهوديةِ كدينٍ سَماويّ. كما أَبْرَزَ طبيعةَ المشروعِ الصهيونيّ الذي يَسْعَى لاحتلالِ الأرضِ وَيَصْدِمُ تَطَلُّعاتِ العربِ في فلسطينَ وبطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ مَشاعِرَ التَّضامُنِ التي يَكُنُّها لَهُمُ العربُ وَمُسْلِمو العالَم. كَما أَوْضَحَ، من جهةٍ أُخْرَى، طبيعةَ العلاقةِ التي تَرْبِطُ العربَ بالفلسطينيينَ والتي تَسْتَمِدُّ جُذورَها وَشَرْعِيَّتَها من وحدةِ اللّغةِ والدّينِ في حينِ أنَّ ما يَرْبِطُ يهودَ العالمِ من وحدةٍ هُوَ وطنٌ مَزْعوم. وَحَمَّلَ مسؤوليةَ ما تَعَرَّضَتْ له الجماعاتُ اليهوديةُ في العالمِ من ويلاتٍ إلى الحركةِ الصهيونيةِ حيثُ اعتبرَ أنَّها "حركةٌ عنصريةٌ" لادِّعائِها أنَّ اليهودَ "شَعْبُ اللهِ المُختارُ" الأمرُ الذي "جَلَبَ لَهُم الوَيْلات".

رأى أنّ حلّ القضية اليهودية يكون في أوروبا وليس في فلسطين

شَبَّهَ بورقيبة ادّعاءَ الحركةِ الصهيونية ذاكَ بِأَحْلامِ النّازِيّينَ مُبَيِّنًا أنَّ شأنَهُمْ لا يَخْتَلِفُ عن شأنِ الزعماءِ النازيّين الذين تَغَالوْا في الطموحِ وانْسَاقُوا معََ الخيالِ إلى إقامةِ ما أَسْمَوْهُ بنظامِهِمِ الجَدِيد. كَما طالبَ "باقتلاعِ جذورِ الصهيونيةِ من قُلوبِ اليَهودِ"، وبَيَّنَ أنَّ توجيهَ المَطامِحِ اليهوديةِ ــ الصهيونيةِ نَحْوَ فلسطينَ سَيَخْلُقُ مَوْطِنًا للحربِ والفتنةِ وهو ما سَـ"يَتَسَبَّبُ في مَصائبَ لا حَصْرَ لَها".

حَمَّلَ بورقيبة الدُّوَلَ الأوروبيّةَ مَسْؤولِيَّةَ ما حَدَثَ للجماعاتِ اليهوديّةِ في القارّةِ، تمامًا كما حمَّلها مسؤوليّةَ إِنْشاءِ الدولةِ الصهيونيةِ وتداعياتِ ذلكَ على الشعبِ الفلسطينيّ، وَأَكَّدَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ سببًا في إخلاءِ أوروبا من الفئاتِ اليهوديّةِ التي نَجَتْ من المُغامَراتِ "الهِتْلِرِيَّةِ" وإقرارِها بالقوّةِ في البلادِ الوحيدةِ التي لم تَضْطَهِدْ اليهودَ البَتَّةَ، واعتبرَ أنّ ما حدثَ هوَ "مَظْلُمَةٌ" تتحمّلُ أوروبا مَسْؤولِيَّتَها. لِذَلِكَ، طالَبَ المجتمعَ الدوليَّ بأنْ يَجِدَ حَلًّا يكونُ "أقلَّ ظُلْمًا يَكْفُلُ وَضْعَ حَدٍّ لآلامِ شعبِ إسرائيلَ وَبُؤْسِهِ وَتَقْتيلِهِ على أنْ يكونَ مُغايِرًا للحَلِّ الذي اختِيرَ في فَرْضِ دولةِ إسرائيلَ في مَنْطَقَةٍ يعيشُ فيها سُكّانُها مُنْذُ ألفَيْ سَنَة".

لِذَلِكَ، رَأَى أنَّ حلَّ القضيةِ اليهوديةِ (إِنَّما يكونُ) في أوروبا وَلَيْسَ في فِلَسْطينَ، وذلكَ بِتَمَتُّعِ اليهودِ هناكَ بِحَقِّ المُواطَنَةِ ومُعامَلَتِهِمْ كَرَعاياها على قَدَمِ المُساواةِ من دونِ تَمْييزٍ عُنْصُرِيٍّ أوْ دِينيّ.

تُمَثِّلُ دعوةُ بورقيبة هذهِ إِحْراجًا للدولِ الأوروبيةِ وفكرةً مُضادَّةً في الوقتِ نفسِهِ للفكرةِ الصُّهيونيةِ التي مِنْ أَرْكانِها هِجْرَةُ اليهودِ الى فِلَسْطين. كَما بَيَّنَ الاختلافَ بَيْنَ الظّاهرةِ الاستعماريّةِ الصهيونيّةِ عن بقيّةِ الظّواهرِ الاستعماريّةِ التي عَرَفَتْها البَشَرِيَّةُ، بِكَوْنِها "ظاهِرَةٌ اسْتِئْصالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قضيّةَ هَيْمَنَةِ شعبٍ على شعبٍ آخَرَ، بَلْ إنَّها في هذهِ الحالةِ الخاصّةِ قضيّةَ إِحْلالِ شعبٍ محلَّ شعبٍ آخر". ويمكنُ اعتبارُ بورقيبة مِنْ أَوائِلِ العربِ الذي استخدمَ مُصْطَلَحَ الإِحْلالِ والصهيونيةِ الإحلاليَّة.

أَمّا عن تأسيسِ دَوْلَةِ "إسرائيلَ" فَيُشيرُ بورقيبة إلى أنَّ ذلكَ قدْ تَمَّ على "أنقاضِ العدالةِ واحترامِ حُقوقِ الإنسانِ، وَتَشْريدِ الشعبِ الفلسطينيّ مِنْ ديارِهِ والحُكْمِ عليهِ بأنْ يَعيشَ حَياةَ الذُلِّ والشَّقاءِ في الغُرْبةَِ واللُّجوءِ ما أَفْسَحَ المجالَ لأفظعِ هَيْكَلٍ بُنِيَ على الإِفْكِ وَالبُهْتان". كَما نَدَّدَ بتصرُّفِ "إسرائيلَ" وسُلوكِها إزاءَ الأممِ المتحدةِ، التي بَعَثَتْها مِنَ العَدَمِ وَفَرَضَتْ وجودَها وَرَأَى أنَّ ذلكَ يكشفُ عن طَبْعِ "إسرائيلَ" وَخُطورَةِ نَواياهَا. وَشَبَّهَ سُلوكَها بالأطفالِ الرُضَّعِ المُدَلَّلينَ المُشْبَعينَ إلى حَدِّ التُّخْمَةِ: "يَبْصُقونَ على ثَدْيِ أُمَّهاتِهِمْ ويَصْرخونَ غاضِبينَ، مُزَمْجِرينَ في وَجْهِ مَن أَنْجَبوهُمْ وَمَنْ يَدينونَ لَهُمْ بِوُجودِهِمْ"، لذلكَ طالبَ العالمَ بالإسراعِ في رَفْعِ التَحَدّي وَدَفْعِ هَذا "الوَحْشِ الضّارِي المُعْتَدِّ بِقُوَّتِهِ والكافِرِ بالجَميلِ إلى المَآلِ الذي بِهِ جَدير".

رفض اتفاقية "كامب ديفيد" واعتبرها حلولًا مغشوشة واستسلاميّة

عَلى الرَّغمِ من الرؤيةِ الاسْتِشْرافِيَّةِ لِبُورْقِيبَة وَفَهْمِهِ العَميقِ لِطَبيعةِ الحَرَكَةِ الصهيونيّةِ، إلّا أنَّ مَواقِفَهُ عَرَفَتْ تَحَوُّلًا بعد "النَّكْبَةِ" وقيامِ الدولةِ الصهيونيةِ وتوقيعِ الدُّوَلِ العربيةِ المَعْنِيَّةِ اتفاقياتِ الهُدْنَةِ مَعَها في غُضونِ عام 1949، وهوَ ما فُهِمَ، عَلى ما يَبْدو، على أنَّهُ اعترافُ دُوَلِ الطوقِ العربيّ بالدولةِ الجَديدَة. وَيَظْهَرُ أنَّ بورْقِيبَة قد "اسْتَسْلَمَ" للواقعِ الجَديدِ الذي أَفْرَزَتْهُ "النّكبةُ" من ناحيةٍ، وربّما في مُحاوَلةٍَ لِكَسْبِ العالمِ الغربيّ لقضيتِهِ الوطنيّةِ، تمامًا كَما دفعتْهُ الظُّروفُ الداخليةُ للبلادِ التونسيَّةِ، وعواملُ أُخْرى ذاتُ علاقةٍ بالقضية، مِنْ قَبيلِ اندلاعِ الكِفاحِ المُسَلَّحِ في يناير/كانون الثاني 1965، وَمُحَدِّداتٌ دَفَعَتْهُ لطرحِ مَسْأَلَةَ اعترافِ العربِ بقرارِ التقسيمِ من ناحيةٍ أُخْرى.

وعلى الرَّغمِ مِنْ ذلكَ، رَفَضَ بورْقِيبَة اتفاقيةَ "كامْب ديفيدْ"، واعتبرَها "حُلولًا مَغْشوشَةً وَاسْتِسْلامِيَّةً"، كَما لَمْ يَنْسَقْ وَراءَ إقامةِ علاقاتٍ ديبلوماسيةٍ رسميةٍ مع دولةِ الاحتلالِ على الرَّغم مِنَ الكثيرِ مِنَ "الإغراءاتِ"، بالإضافةِ لاسْتِضافَتِهِ القيادةَ الفلسطينيةَ عام 1982، ما أَدَّى لِتَعَرُّضِ تونسَ للاعتداءِ الصهيونيّ الغَادِر.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن