نَظَرًا لقوةِ شبكاتِهِمْ الرَّقْمِيَّةِ وَكاريزْما حُضورِهِمُ الشَّخْصي وَالعاطِفيّ، وخِبْراتِهِم في المَواضيعِ التي يَتَناوَلونَها وَنَشاطِهِمُ المُتَواصِلِ عَلى الشبكاتِ، يُنْظَرُ اليومَ إِلى المؤثّرينَ الرَّقْمِيّينَ على أَنَّهُمْ أَشْخاصٌ مَوْثوقونَ في مَوْضوعٍ مُعَيَّنٍ وَيَسْتطيعونَ الوصولَ إلى جُمْهورٍ واسِعٍ عَبْرَ شبكاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ، وَعَلى الرَّغْمِ مِنْ تَقارُبِ نَشاطِهِمْ أوْ تَماثُلِهِ مَعَ فاعلينَ آخرينَ يَتَقاسَمونَ مَعَهُمُ الاتصالَ السياسيَّ، إلّا أنَّ هناكَ فروقاتٍ واضحةً بَيْنَ نَشاطِ المُؤَثِّرِ والصِّحافيِّ والفاعِلِ السِياسيّ. وبَيْنَما يعتمدُ المؤثّرُ الرّقميّ عَلى شَرْعِيَّةِ المِنَصَّةِ وقوةِ الانتشارِ بتسهيلٍ من الخَوارِزْمِيّاتِ، ويَجْعَلُ هَدَفَهُ الأساسَ هَوَ بِناءُ عَلامَةٍ رقميةٍ بهدفِ التأثيرِ وَجَذْبِ الانتباهِ، يَكْسَبُ الصّحافيّ شَرْعِيَّةً مُؤَسَّساتِيَّةً قائمةً على أخلاقيّاتِ المِهْنَةِ، ويكونُ هَدَفُهُ هُوَ نَشْرُ الأَخْبارِ والتَّحَقُّقُ مِنَ المعلوماتِ، في حينِ يَحْضُرُ الفاعِلُ السياسيُّ رَقْمِيًّا ليمثّل الشرعيةَ التَّمْثيلِيَّةَ القائمةَ على إيدْيولوجِيَّةٍ حزبيةٍ مُعْلَنَةٍ، يهدفُ من خلالِها إلى مُمارَسَةِ التَّأْطيرِ والتَّعْبِئَةِ من أَجْلِ التَّأْثيرِ في القَرارِ السِّياسيّ.
مِنْ ذَلِكَ تَحَوَّلَتْ شَبَكاتُ التَّواصُلِ الاجتماعيّ ساحاتٍ وَفَضاءاتٍ سِياسِيَّةً مَفْتوحَةً، يتحلّق حَوْلَها الفاعلونَ الحزبيّونَ، والحكامُ والمسؤولونَ والصُّحُفيُّونُ والمؤثّرونَ والأفرادُ العاديّونَ، ضِمْنَ ديناميكِيَّةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ جديدةٍ، تُحاوِلُ القُوى المُحافِظَةُ في كلِّ بلدٍ عربيٍّ السيطرةَ عَلَيْها أوْ احْتِواءَها، إمّا عَبْرَ المَنْظورِ السُّلْطَويِّ التّقْليديّ (مُصادَرَةِ الحُرّياتِ أو الغَراماتِ أو الإِغْلاقِ)، أوْ عَبْرَ آليات المراقبةِ الرقميةِ وخوارزمياتِ الذَّكاءِ الاصطناعيّ، معَ اشْتِغالِ نِظامِ دِعايَةٍ يُفيدُ قدرةَ الجِهاتِ الحكوميةِ والشركاتِ على جَمْعِ بياناتٍ ضخمةٍ عن المُسْتَخْدِمينَ، أو عَبْرَ التعبئةِ الناعمةِ، من خلالِ توظيفِ وسطاءَ سياسيّينَ أو مُسْتَشارينَ اسْتْراتيجيّينَ (غالبًا ما يكونونَ من المؤثّرينَ) مِنْ أَجْلِ التأثيرِ في المُسْتَخْدِمينَ، أَوْ تَحْفيزِهِمْ عَلى المُشارَكَةِ، أوْ تَعْبِئَتِهِمْ وَتَأْطِيرِهِمْ لصالحِ كتلةٍ مُعَيَّنَةٍ، من أجلِ تَبَنّي خِطابِها والعَمَلِ على نَشْرِهِ وإعادةِ تَقاسُمِهِ على الشبكات، أوْ إِشْراكِهِمْ في إِطارِ الجيشِ/الذُّبابِ الإلكترونيّ للدفاعِ عن قضيةٍ أو شخصيةٍ أو سياساتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمِنْ ثمَّ تَوْظيفُهُمْ كجزءٍ من عملياتِ التأثيرِ السياسيّ الناشِئَةِ، التي تُرَوِّجُ بشكلٍ منهجيٍّ للدعايةِ لخدمةِ مصالحَ النُّخَبِ السياسيةِ الرِّيادِيَّةِ، يَتَلَقّونَ بِموجَبِها توجيهاتٍ من اسْتْراتيجِيّينَ رَفيعي المُسْتَوى حولَ الرسائلِ السياسيةِ التي يَجِبُ عَلَيْهِمُ الترويجُ لَها، ثم تُضاعَفُ مَنْشوراتُهُمُ السياسيةُ بواسطةِ حساباتٍ وَهْمِيَّةٍ وَمُرَوِّجينَ عَلى مستوياتٍ مُنْخَفِضَة.
يمنح وجود المؤثّرين خارج بلدانهم مساحة أوسع للمعارضة ويدفع القُرب الجغرافيّ من السلطة إلى انتهاج أساليب رمزية
وَالمُحَصِّلَةُ من ذَلِكَ، أَنَّ الْخِطابَ السّياسيَّ في البيئاتِ الرَّقميةِ العربيةِ راهِنًا، يَتَشَكَّلُ ضِمْنَ بيئةٍ رماديةٍ سائِلَةٍ أوْ هَجينَةٍ غَيْرِ قابلةٍ للتَّحْديدِ النِّهائيّ، وَيَزيدُ مِنْ سُيولَتِها غيابُ الموقعِ الجغرافيِّ أَحْيانًا، لَدَى المُؤثّرينَ والصُّحُفيّينَ والفاعلينَ السياسيينَ، حَيْثُ الموقعُ الجغرافيُّ لَمْ يَعُدْ مجرّدَ مُحَدِّدٍ مَكانيٍّ، بَلْ بات عُنْصُرًا فاعلًا في تشكيلِ الخطابِ السياسيّ وأساليبِ المعارضةِ وتكثيفِ المُحْتَوى السياسيّ، إِذْ يَمْنَحُ وُجودُ المؤثّرينَ والصُّحُفيّينَ والفاعلينَ السياسيينَ خارِجَ بُلْدانِهِمْ الأَصْلِيَّةِ مِساحَةً أوسعَ للتَّعْبيرِ النَّقْديِّ والمُعارَضَةِ الهُجومِيَّةِ، بَيْنَما يَدْفَعُ القربُ الجُغْرافيُّ من السلطةِ إلى انتهاجِ أساليبَ رمزيةٍ، ساخرةٍ أو ترفيهيةٍ، لِتَجَنُّبِ الاصطدامِ المُباشِر.
يَبْقَى تحديدُ تأثيرِ الامتيازِ بَيْنَ الفاعلينِ الثلاثةِ، غَيْرَ قابِلٍ للحصرِ على نحوٍ عامٍ أوْ شاملٍ، فَعَلى مُسْتَوى سرعةِ الانتشارِ والقدرةِ على الوصولِ إلى الجماهيرِ يتفوّقُ المؤثّرُ الرقميُّ خاصةً بالنسبةِ لِلأَجْيالِ الشَبَكِيّةِ (جيلِ الألفيةِ وجيلَيْ زِدْ وَأَلْفا)، بَيْنَما عَلى مُسْتَوى بناءِ المعرفةِ وَمَوْثوقِيَّةِ المعلوماتِ والمِصْداقِيَّةِ عَلى المَدَى الطويلِ يتفوّقُ الصُّحُفيُّ، عَلى الرَّغْمِ مِنْ تَراجُعِ الثقةِ حاليًا في الإعلامِ التَقْليديّ. أمّا عَلى مُسْتَوَى التأثيرِ الفعليِّ على صُنْعِ القرارِ وتفعيلِ السياساتِ، فَيَبْقَى السياسيُّ (وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جيلِ الشَّبَكِيّينَ) صاحِبَ التأثيرِ الأقْوَى، إلّا أنَّ ديموقْراطِيَّةَ النشرِ والمُكاشَفَةِ الرقميةِ قَوَّضَتْ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ أَيْضًا، وَضَيَّقَتْ على رَسائِلِهِ وَصورَتِهِ (بَعْضُ السياسيينَ في العالمِ العربيِّ يَتَباهونَ بقدرتِهِمْ عَلى البقاءِ في مَناصِبِهِمْ عَلى الرَّغْمِ مِنْ تَعَرُّضِهِمْ للنَّقْدِ وَتُهَمِ الفَساد).
يمكن تفعيل التغيير الاجتماعيّ مع وصول جيل "زد" إلى سدّة القرار وزيادة تدخُّل الذكاء الاصطناعي في الحَوْكَمَة
خُلاصَةُ القَوْلِ إِنَّ الطَّريقَ إِلى التَّغْييراتِ في السِّياسَةِ تَمُرُّ عَبْرَ التَّغْييرِ السياسيِّ، والتَّغَيُّراتِ السياسيةِ التي شَكَّلَتْها مَصالِحُ السياسيينَ المَسْؤولينَ الأَوائِلَ (كاستيلز)، وَلِذَلِكَ يَبْقى مَدْخَلُ تَأْثيرِ قادةِ الرَّأْيِ الرَّقميينَ في القرارِ العربيِّ اليومَ شِبْهَ مُسْتَحيلٍ، أوْ عَلى الأَقَلِّ غَيْرَ مُمْكِنٍ في المَدَى القريبِ والمتوسطِ، ومَعَ ذلكَ من المُؤَكَّدِ في السنواتِ المُقْبِلَةِ أنْ تُغَيِّرَ البُنْيَةُ الجيلِيَّةُ العربيةُ، مَعَ اخْتِفاءِ جيلِ الطَّفَْرَةِ السكانيةِ (من مواليد 1945-1965) وجيلِ "إكس" (من مواليد 1965-1979)، ووصولِ جيل الأَلْفِيَّةِ وجيلِ "زِدْ" إلى سُدَّةِ القرارِ وَإِدارَةِ السياساتِ والهَيْمَنَةِ في الحياةِ العامَّةِ، وزِيادَةِ تَدَخُّلِ تِقْنِيّاتِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ في الحَوْكَمَةِ الإِدارِيَّةِ وشفافيّةِ القراراتِ، وَتَنامي الوعيِ في أَذْهانِ المُواطنين الشَبَكِيّينَ، كُلُّ ذلكَ بإمكانِهِ تَفْعيلِ التغييرِ الاجتماعيِّ، ومن ثمَّ تَمْكينِ الجَميعِ من المُشارَكَةِ والنِّقاشِ حَوْلَ حَياتِهِمْ واتخاذِ القرارِ فيما يَخُصُّ مُسْتَقْبَلَ بُلْدَانِهِم.
(خاص "عروبة 22")

