من ميناء الخُمس إلى فزان، تتصاعد وتيرة «حرب» القواعد العسكرية في ليبيا، بين تركيا وروسيا وفرنسا، وتتصاعد معها حدة التنافس على الموارد والموقع الاستراتيجي.
فعلى سبيل المثال، فإنّ تركيا كانت قد تدخلت منذ عام 2011، من خلال الجماعات الدينية المتشددة لتفرض سلطانها على الغرب الليبي، وكان في اعتقادها أنها ستتمكن من تحويل كل الأرض الليبية إلى قواعد عسكرية استراتيجية للجيش التركي، تنفيذاً لمصالح ومهام قد تتجاوز المصالح التركية، لقوى أخرى أكثر نفوذاً في العالم، أهمها حلف الناتو الذي يُعد الجيش التركي الجيش الثاني فيه بعد الجيش الأمريكي. فبحشد عسكري متزايد في قاعدة عقبة بن نافع بمنطقة الوطية الليبية خلال السنوات الماضية، سعت تركيا إلى وضع نقطة ارتكاز تمنحها الأفضلية في شمال إفريقيا، وذلك على غرار الدور الذي تلعبه قاعدة إنجرليك الأمريكية على الأراضي التركية.
ويشير المراقبون إلى أنه مع اختلاف اللاعبين والأهداف إلا أن هناك تطابقاً بين الدور الذي تقوم به قاعدة إنجرليك الأمريكية على الأراضي التركية وقاعدة عقبة بن نافع بمنطقة الوطية، والتي تحتلها تركيا الآن على الأراضي الليبية. وأضافوا أن إنجرليك تمنح الولايات المتحدة الأفضلية في آسيا الوسطى، وتمثل رأس حربة صريحاً ضد العراق وسوريا، وقد كان لها الدور الأبرز في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بينما ستلعب القاعدة الليبية الثانية بمنطقة الوطية نفس الدور الاستراتيجي، ولكن لصالح تركيا، وستكون رأس حربة صريحاً ضد الجوار الغربي الليبي، وبالتحديد تونس والجزائر، وربما دول أخرى لتركيا نفوذ وأطماع وأدوات داخلها.
ولم تكتفِ تركيا بذلك بل إنها فرضت على عبد الحميد الدبيبة أن يمنحها قاعدة عسكرية بحرية في مدينة الخُمس، وهو ما تم فعلاً، ولكن سياستها التوسعية جعلتها تطلب منه أن يحول الميناء التجاري في المدينة إلى القاعدة العسكرية التركية، الأمر الذي أشعل احتجاجات شعبية واسعة طوال الأيام الماضية، تمت مواجهتها بالرصاص من أجل إسكات الأصوات الرافضة.
صحيح أن الغرب الليبي استباحته تركيا وبسطت نفوذها العسكري عليه، غير أن الشرق الليبي الذي يسيطر عليه الجيش الليبي الذي يقوده خليفة حفتر لم يسلم هو الآخر من الاستسلام للنفوذ الخارجي الروسي خصوصاً في قاعدتي القرضابية الجوية وسرت البحرية، ما يؤكد أنّ ليبيا باتت فعلاً مسرحاً لصراع دولي بين المحور الروسي والناتو الذي تمثله في ليبيا تركيا. ولكن هناك لاعب جديد - قديم دخل على خط المنافسة وهو فرنسا التي تريد أن تقيم قاعدة في فزّان، تكون منطلقاً لها للقيام بعمليات عسكرية في الصحراء الكبرى، وفي الدول التي تمردت عليها وأجبرتها على الخروج من أراضيها.
وفي الحقيقة، أن فرنسا بهذا الطلب لم تتخلّ عن نواياها الاستعمارية الفاضحة، فهي تريد استعادة المنطقة التي كانت تحتلها فعلاً قبل استقلال ليبيا. ذلك أن فرنسا احتلت القاعدة العسكرية في المنطقة الجنوبية من ليبيا والتي كانت تحتلها إيطاليا وذلك في عام 1947، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وسقوط الفاشية في إيطاليا، واستمر الاحتلال الفرنسي إلى عام 1951 وهي سنة استقلال ليبيا.
وتريد فرنسا من خلال قاعدة فزان أن تبسط نفوذها على مصادر الطاقة التي تستغلها شركات فرنسية كانت السبب الرئيسي في الإطاحة بالعقيد معمر القذافي في سنة 2011، حيث وحّدت تلك الشركات الفرنسية ذات المساهمة القطرية الموقف السياسي في الدوحة وباريس، ودفعتهما إلى أن تكونا رأس حربة في كل ما حدث منذ عام 2011. وتدرك فرنسا المطرودة من ثلاث دول هي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأخيراً الغابون، أنه لم يعد لها موطئ قدم لتأمين مصالحها في إفريقيا، خاصة بعد أن أغلقت الجزائر في وجهها المجال الجوي، ورفضت تونس إنشاء قاعدة عسكرية فرنسية في الصحراء وعلى الحدود مع ليبيا.
ومن جانبها فإن روسيا تستحوذ على قاعدة القرضابية الجوية وعلى ميناء في سرت سيكون مرفأ لغواصاتها، فضلاً عن قواعد عسكرية في الجنوب الليبي دعماً لقوات الجيش الليبي. وهذا ما يجعل ليبيا ساحة صراع مفتوحة أمام القوى الدولية التي أثبتت أنّ كل ما حدث منذ عام 2011 ليس من أجل عيون الليبيين، بل هو صراع مصالح ونفوذ.
("الخليج") الإماراتية