نجح العرب في تكوين عالمٍ متجانسٍ ومتصلٍ في فضاءٍ بشريّ لم يشهده العالم في تلك القرون البعيدة. وأصبح بإمكان الشخص الذي يُتقن العربية أن يرْتحل من الأندلس وصولًا إلى الصين وهو لا يشعر بالغربة، ما ولّد حركةً تجاريةً ضخمةً لعبت فيها التوابل الدور الرئيسي لتلبية الطلب على استهلاكها، في الحواضر العربية خاصةً بغداد ودمشق والفسطاط والمدن الإيرانية الكبرى. وازدهرت البصرة تلك المدينة الواقعة على مدخل الخليج، والتي تعدّ محطةً أساسيةً في انطلاق التجّار بسفنهم صوب الشرق للحصول على التوابل. بعض تجلّيات الرحلات التي شارك فيها أبناء عرقيات وأديان مختلفة تحت المظلّة العربية، تسرّبت إلى نصّ "ألف ليلة وليلة"، حيث نجد قصص السندباد الشهيرة، التي تحكي عن مغامرات التجّار الذين ذهبوا إلى الشرق.
التوابل دخلت المطبخ الأوروبي عن طريق الاحتكاك مع الحضارة العربية
بينما رصد كتاب "الطبيخ" لمحمد بن الحسن البغدادي، وصفات الأكل الشهية في بغداد العباسية التي استُخدمت فيها التوابل بكثرة، فساهمت الحضارة العربية في تطوير ثقافة التوابل، إذ استُخدمت لصناعة أشهى المأكولات لإرضاء طبقةٍ ثريةٍ يقف على قمّتها الخلفاء. وأصبحت ثقافة تناول الطعام بنكهات مختلفة، منتشرةً في المدن العربية، ومنها تعلّم الأوروبيون أسرار الطبخ بالتوابل، بحسب فريد كزارا (Fred Czarra) في كتاب "التوابل: التاريخ الكوني"، الذي يتتبّع كيف انتقلت ثقافة التوابل إلى أوروبا، وغيّرت إلى الأبد عادات الأكل لدى تلك الشعوب التي اكتشفت تجارب جديدة في عالم الطهي.
السيطرة على طرق التجارة لإحكام القبضة على تجارة التوابل ذات العوائد المالية الضخمة، قادت إلى صراعٍ شرسٍ بين الخلافتَيْن العباسية في العراق، والفاطمية في مصر، بحسب ما يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه "الدولة الفاطمية في مصر"، فالفاطميون لكي يتفادوا طرق التجارة التقليدية التي يُسيطر عليها العبّاسيون، استثمروا في طريق "البحر الأحمر" ومحطّة اليمن الذي كان تابعًا لمصر وقتذاك، وصولًا إلى الهند والشرق. ومن هنا، بدأت ظاهرة تجّار الكارم، التي يرصدها صبحي لبيب في دراسته عن "التجارة الكارميّة وتجارة مصر في العصور الوسطى"، وكيف ترسّخت في العصرَيْن الأيوبي والمملوكي، عندما أصبحت مصر مركز تجارة الترانزيت بين الشرق وأوروبا الغربية التي ازدهرت فيها الملكيات والإقطاعيات والمدن التجارية، ومعها طبقة وسطى صاعدة لها متطلّباتها وتطلّعاتها وفي مقدمتها التوابل.
المنطقة العربية تحتفظ بأهمّيتها في قلب طرق التجارة العالمية
وتثبت دراسة لبيب، فضلًا عن "وثائق الجنيزة" اليهودية، أنّ مصر كان فيها طريق بري تجاري يبدأ من غرب أفريقيا حيث منطقة الكانم، التي حُرّفت إلى الكارم، وطريق آخر بحري مع المدن التجارية في أوروبا. وكلاهما يعملان في التوابل بشكلٍ أساسيّ، حيث تنطلق من الموانئ المصرية على البحر الأحمر صوب عدن (ثم جدّة في القرن الأخير من العصر المملوكي)، ومنها إلى الهند لنقل التوابل التي دخلت المطبخ الأوروبي عن طريق الاحتكاك مع الحضارة العربية في الشام ومصر أثناء الحروب الصليبية. كما استُخدمت التوابل كأدويةٍ فضلًا عن دورها في إضافة نكهاتٍ للأكلات المختلفة، بحسب فريد كزارا، الذي يُشير إلى أهميةٍ خاصةٍ لجوزة الطيب التي نقلها العرب إلى أوروبا، واستُخدمت على نطاقٍ واسعٍ في كامل أقاليم القارّة العجوز، واستُخدمت كدواءٍ وأيضًا كبخور في المناسبات المهمّة.
من حسن حظ العرب، أنّ المنطقة العربية لا تزال تحتفظ بأهمّيتها في قلب طرق التجارة العالمية، لذا فاستعادة تاريخ مشاركتهم في صناعة التواصل عبر الثقافات والحضارات المُختلفة مهم. وهنا يحضر مثال نقل ثقافة استخدام التوابل، التي عرفها الأوروبيون بقوة بعد الحروب الصليبية، وأصبحت المحرّك التجاري الأوّل للمدن الإيطالية لتلبية الطلب على التوابل لدى الطبقات العليا الأوروبية، ضمن العديد من سلع الشرق. والدور التجاري الحضاري المزدوج الذي لعبه العرب في صياغة بعض ميراث الثقافة العالمية، وهو أمر مهمّ كنموذج للاستلهام الحضاري في بلورة عودة عربية للإنتاج الثقافي والمشاركة في صناعة الحضارة العالمية الحديثة، عبر استعادة هذا التاريخ المُهمل لمشاركة أسلافهم في تشكيل ثقافةٍ عالميةٍ قبل ألف سنة.
(خاص "عروبة 22")