وجهات نظر

كيف تنجو أفريقيا من الفقر والانقلابات؟

تبدو أسباب الانقلابات العسكرية في أفريقيا معقّدة ومتعدّدة المستويات، وغالبًا ما تكون تحت محصّلة أزمات في النظام الدولي، فمن الملاحظ أنّ هذه الظاهرة شهدت مرحلتين، الأولى؛ أثناء الحرب الباردة حيث تصارع كل من السوفييت والأمريكيين على مناطق النفوذ في أفريقيا حتى استقرّت هيمنة قصيرة لواشنطن على النظام الدولي بعد سقوط حائط برلين، وتُصارع حاليًا للإبقاء عليها، أما المرحلة الثانية فتلك التي نشهدها منذ عام 2020، وأنتجت المرحلتين معًا ما يزيد عن 100 انقلاب عسكري في أنحاء القارة، وهو رقم مضاعف لعدد الدول الأفريقية ذاتها.

كيف تنجو أفريقيا من الفقر والانقلابات؟

في تقديرنا أنّ السبب المركزي للانقلابات الأفريقية يكمن في استراتيجيات الاحتواء المزدوج التي مارستها عواصم الاستعمار القديم إزاء دول الاستقلال الوطني بغرض الحصول على الموارد أولًا، ولأسباب جيوسياسية متعلّقة بتقسيم مناطق النفوذ بين الدول الكبرى، وهو الأمر الذي تطلّب ربط دول القارة بنمطين سياسيين متماثلين سياسيًا ومختلفين ثقافيًا، الأول؛ فرانكوفوني، والثاني؛ أنجلوفوني.

استراتيجيات الاحتواء المزدوج الغربية أنتجت أنماطًا معمّرة من التحالفات مع غالبية نظم الحكم الأفريقية، وهي التحالفات التي سمحت باستمرار الموالين عبر قبول الانقلابات العسكرية أحيانًا أو هندستها أحيانًا أخرى.

التحالف الفرنسي مع عائلة بونجو والمنقلبين عليه سمح بفساد منقطع النظير

فعلى سبيل المثال لا الحصر، يندرج انقلاب الجابون الذي وقع ضدّ علي بونجو مؤخرًا ضمن شريحة الانقلابات التي تمّت هندستها، في تقديري، وحصلت على ضوء أخضر فرنسي، ذلك أنّ بونجو قد أعلن عن شراكة استراتيجية مع الصين تسمح بإقامة قاعدة عسكرية على أراضي بلاده بما يشكّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الاقتصادية الفرنسية والأمريكية معًا، فالجابون بلد منتج للنفط والغاز في محيط جغرافي يذخر بهما، وفيه وجود لشركات النفط والغاز الأمريكية التي خطّطت أن تكون هذه المناطق مصدرًا بديلًا عن النفط الخليجي باعتباره الأقرب جغرافيًا وبيئته السياسية هي أقلّ من مخاطر الشرق الأوسط.

وأدلّل علي صحة تقديري، بأنّ الرجل حينما التقيتُ به قبل خمس سنوات تقريبًا، كانت فرنسا قد دمغت انتخابات الفترة الثانية على منافسه بالتزوير، بعد أن فاز على منافسه رجل فرنسا الذي تمّ استقطابه من جانب باريس من عائلة بونجو، وهو زوج أخته بسكال التي لعبت دورًا في الانقلاب الأخير أيضًا، وكان ذلك بسبب أنّ علي بونجو قد اتخذ له مستشارًا صينيًا في هذا التوقيت.

التحالف الفرنسي الممتد مع عائلة بونجو والمنقلبين عليه سمح بفساد منقطع النظير في الجابون، فهذه الدولة النفطية لا يحصل سكانها البالغ عددهم أقل من 3 ملايين نسمة على الطاقة، أما البنية التحتية ومستوى العمران فحدّث ولا حرج.

إذن على المستوي الأفريقي أنتجت سياسات الاحتواء المزدوج نخب الكمبرادور الأفريقية، أي الموالية ثقافيًا وسياسيًا لعواصم الاستعمار، فانتمت إليها وانسلخت عن طموحات شعوبها في التنمية الاقتصادية المتوازنة، وباتت هذه الدول منتجة لحزمة من الأزمات متنوّعة من هجرة غير شرعية إلى اتساع لظاهرتَي الإرهاب والصراعات الداخلية المسلّحة، فضلًا عن الجريمة المنظّمة.

أخيرًا أدركت أوروبا أنّ ظاهرة الانقلابات العسكرية، هي نتاج لسياسات الاحتواء المزدوج التي مارستها دول الاستعمار الكولونيالي على دول الاستقلال الوطني في أفريقيا، فانعقد اجتماعان لوزراء الدفاع والخارجية الأوروبيين في كلّ من بروكسل ومدريد خلال الأسبوع الماضي لبحث الظاهرة الانقلابية الأفريقية، من زاوية وضع استراتيجيات تفاعل جديدة مع القارة السمراء يكون من شأنها عدم خسارة المصالح الغربية في أفريقيا لصالح كلّ من روسيا والصين.

على الكتلة الغربية أن تؤسّس لشراكة ندية تسمح لها بالوصول للموارد الأفريقية لكن بعوائد عادلة

قد أقترح هنا أنّ وضع هذه الإستراتيجيات لا بدّ وأن يأخذ بعين الاعتبار عددًا من المتغيّرات، منها أنّ التطوّر الديمغرافي في أفريقيا هو في صالح الشباب الذين يتطلّعون إلى مستوى جودة حياة أفضل مما يعيشون من حيث إتاحة فرص العمل أو مستوى الرفاه، أما المتغيّر الثاني فهو اتساع الطبقة الوسطى الأفريقية، وهي الطبقة التي تملك دافعية الطموح الاقتصادي والتغيير السياسي التي ساهم في اتساعها الاتجاه نحو إنشاء المدن في أفريقيا تلبيةً لاحتياجات الخدمات المطلوبة من الشركات الغربية المستغلّة للموارد الأفريقية.

المتغيّر الثالث؛ تداعيات ظاهرة الإنترنت، فهي التي وفّرت قدرة الوصول للمعلومات المتعلّقة بحجم الموارد الأفريقية، وطبيعة الاستغلال الغربي لها، وكذلك والتواصل عبر المنصات المختلفة، ومن ثم عقد المقارنات بين أنماط حياة متنوّعة يجد الأفارقة أنفسهم في قاعها.

وطبقًا لهذا المشهد، يبدو أنه لا سبيل أمام الكتلة الغربية إلا أن تؤسّس لأنماط شراكة ندية تسمح لها بالوصول للموارد الأفريقية لكن بعوائد عادلة، وبشفافية ونزاهة تجعلها في غير حاجة إلى الكمبرادور، بما يساوي أن تكون هذه العوائد مدرَجة في الموازنات العامة ما يسمح بتنمية اقتصادية للدول الأفريقية وتجعل نخبها قادرة على تدشين نظم حكم تعتمد على الآليات الرشيدة، أي أنماط من الديمقراطية تناسب الحالة الأفريقية المنقسمة عرقيًا وقبليًا، ويمكن الإشارة في هذا المقام إلى تجربة بتسوانا مثلًا.

في ظنّي أنّ هذا النوع من الشراكات الشفافة مع أيّ من الأقطاب العالمية المتصارعة على الموارد والنفوذ هو سبيل الأفارقة الوحيد للوصول إلى استقرار دولهم والتنمية الاقتصادية فيها، فلا الانقلابات العسكرية، ولا الكتلة الشرقية أي روسيا والصين، يمكن أن تكون بديلًا مساندًا لطموحات الشباب الأفارقة المستقبلية التي سوف يسعون لتحقيقها بكافة الوسائل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن