كان تأسيس المهرجان خطوةً جريئةً ومفصليّةً في تاريخ الفنّ السعودي، إذ مثّل إعلانًا صريحًا عن دخول المملكة مرحلةً جديدةً تتبنّى صناعة السينما كجزءٍ من اقتصادها الإبداعي. وبدعمٍ من "مؤسّسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي"، جاء الحدث ليكسر الصورة النّمطية عن المملكة، ويفتح أبوابها أمام المخرجين والكتّاب والممثلين من كل أنحاء العالم.
منذ دورته الأولى، استقطب المهرجان أفلامًا من عشرات الدول، وعرض تجاربَ بصريةً جريئةً ومبتكرةً، كما منح مساحةً خاصّةً للأصوات العربية الشابّة التي تبحث عن منصة عالمية.
الفن كجسر حضاري
لا يقتصر دور المهرجان على كونه حدثًا فنيًا، بل يتجاوز ذلك ليُصبح جسرًا حضاريًا يربط المملكة بثقافات العالم. على مدار أيامه، تتحوّل جدّة إلى ملتقى للفنانين والمفكرين والنقّاد، حيث تدور النقاشات حول قضايا الفن والهوية والإنسان.
ويُعطي المهرجان أولويةً لعرض أفلام تحمل رسائل إنسانية عميقة، وتتناول موضوعات مثل التسامح والتعايش وقبول الآخر، ما يعكس وجه السعودية الجديد كمنارةٍ للحوار الثقافي والديني.
واجهة حداثية للمملكة
من خلال الشاشات الكبيرة والسجّاد الأحمر، يقدّم المهرجان صورةً حداثيةً للمملكة، بعيدةً عن الكليشيهات وقريبةً من روح العصر. يظهر للعالم أنّ السعودية اليوم ليست فقط بلد النفط والاقتصاد القوي، بل أيضًا بلد السينما والموسيقى والفنّ المعاصر.
في قلب منطقة جدّة التاريخية، حيث تمتزج العمارة الحجازية العريقة مع المرافق العصرية، يعيش الزائر تجربةً بصريةً وحسّيةً تؤكّد أنّ الحداثة في السعودية لا تنفصل عن عمقها التاريخي.
دعم صُنّاع السينما
أحد أعمدة نجاح المهرجان هو دعمه الواسع لصنّاع السينما السعوديين والعرب، فعبر مبادرات مثل برنامج "تمكين"، يمنح المهرجان منحًا وتمويلاتٍ لتطوير النصوص والإنتاج وما بعد الإنتاج، ممّا يساعد المبدعين على تحويل أفكارهم إلى أفلام تصل إلى الجمهور العالمي.
ولا يقتصر هذا الدعم على الجانب المالي، بل يمتدّ إلى توفير التدريب والإرشاد وشبكات التواصل مع المُوزّعين والمُنتجين.
مهرجان البحر الأحمر ورؤية 2030
يتكامل المهرجان بشكلٍ عضويّ مع "رؤية السعودية 2030"، التي تضع الثقافة والفنون في قلب مشروعها للتنمية المستدامة وتنويع الاقتصاد. فصناعة السينما ليست مجرّد نشاط ترفيهي، بل قطاع اقتصادي واعد، يوفّر فرص عمل ويُعزّز السياحة الثقافية.
كما أنّ المهرجان ينسجم مع أهداف الرؤية في تعزيز القوة الناعمة للمملكة، وتقديمها كدولة منفتحة وحديثة وفاعلة في المشهد الثقافي العالمي.
منصّة للتسامح والتنوّع
من بين الرسائل القوية التي يبعثها المهرجان، التأكيد على أنّ الفنّ لغة مشتركة تتجاوز الاختلافات الدينية والعِرقية.
بحضوره الدولي المتنوّع، يتحوّل المهرجان إلى مساحةٍ للتفاعل بين ثقافات وأديان متعدّدة، حيث يقف المُبدعون جنبًا إلى جنب، ويشاهد الجمهور أفلامًا من بيئاتٍ وتجارب مختلفةٍ، ما يُعزّز قيم التسامح والتفاهم المتبادل.
أثر اقتصادي وسياحي
خلال أيام المهرجان، تنبض جدّة بالحياة، وتستقبل آلاف الزوار من داخل المملكة وخارجها، ما ينعكس بشكلٍ مباشرٍ على قطاعات السياحة والضيافة والفنادق والمطاعم، حيث تستفيد الأسواق من هذه الحركة، بينما تحظى المدينة بتغطيةٍ إعلاميةٍ عالميةٍ تعزّز مكانتها كوجهة سياحية وثقافية.
حكاية مستمرة
ما يُميّز مهرجان البحر الأحمر أنّه ليس حدثًا معزولًا، بل مشروع مستمرّ يتطوّر مع كلّ دورة. من دورة إلى أخرى، نلاحظ تنوّعًا أكبر في الأفلام، ومشاركةً أوسع من المواهب المحلية، وتفاعلًا أعمق مع القضايا الإنسانية. إنّه بمثابة وعدٍ سنويّ بأنّ السعودية ماضية في رحلتها نحو مستقبلٍ يُوازن بين الأصالة والانفتاح، وبين الهوية الوطنية والانتماء الإنساني.
في زمنٍ تتقاطع فيه الثقافات وتتسارع فيه التغيّرات، يلعب مهرجان البحر الأحمر السينمائي دورًا محوريًا في إعادة تعريف صورة المملكة للعالم. إنّه ليس مجرّد منصّة لعرض الأفلام، بل منارة حضارية تعكس روح السعودية الجديدة: منفتحة، مبتكرة، وفخورة بإرثها، وفي الوقت ذاته مستعدّة لاحتضان المستقبل بكل جرأة وثقة. وبذلك، يظلّ المهرجان أحد أعمدة التحوّل الثقافي في المملكة، وأحد أهم وجوهها في مسيرة رؤية 2030 نحو الرّيادة الإقليمية في مجالات الفنّ والثقافة.
(خاص "عروبة 22")