من كلّ الاستخدامات المُتشعّبة للحواسيب، تبقى الوظيفة الأصل ثابتة، لا تتغيّر: معالجة المعلومات، أيّ تطبيق عمليات محدّدة بصورةٍ منهجيةٍ، على أدواتٍ رمزيةٍ نشعر بها، لكنّنا لا نراها، نتعامل معها، لكن من دون أن نعاينها أو نلمسها.
الحواسيب لا تعمل من تلقاء ذاتها. إنّها تعمل بناءً على تعليماتٍ محدّدةٍ تُمكّنها من معالجة المعلومات وتخزينها، ومن ثمّ استردادها. إنّها آلات تُنفّذ توجيهات أجمع الخبراء على تسميتها بالخوارزميات، تيمّنًا واعترافًا بمُنظّرها الأول وواضع أسُسها: العالِم الإسلامي أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي.
لم يكن الخوارزمي، وهو يدير بيت الحكمة في بغداد زمن المأمون، عالم جغرافيا وفلك فحسب، بل كان عالم رياضيّاتٍ أيضًا، وعالم جبرٍ على وجه التحديد. هو صاحب "كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، أوّل دراسة منهجيّة لحلّ معادلات الدرجة الأولى والثانية، وأوّل عمل تقني صرف يثوي خلفه عالِم مسلم، برع في عرض المعادلات الخطية والمعادلات التربيعية على طريقة ما يعرف بإكمال المربّع.
كان اسم الخوارزمي مرتبطًا بالرياضيّات والجبر والهندسة وأضحى مرتبطًا أيضًا بالمعلوماتيّة
إنّه إسهامٌ تأسيسيٌ بامتياز، كونه وضع المادة العلمية الأولى "لحساب الفرائض" في الميراث، أي نَقَلَ هذا الأخير من مادةٍ لحساباتٍ فقهيةٍ تقديريةٍ، إلى طرحٍ في الرياضيات التطبيقية لا يزال يُعْتَدُّ به إلى حين وقتنا الحاضر. وهو إسهامٌ تأسيسيٌ أيضًا، لأنّه جعل من العمليات الحسابية أحد أعمدة البحث العلمي السائد في زمنه وفيما أتى من تراكماتٍ فيما بعد.
يقول المستشرق الإسباني ومؤرّخ العلوم خوان فيرني (Juan Vernet)، في كتابه عن "تراث الإسلام": "إذا تحرّينا الدقّة، نجد أنّ أصل التطوّر العلمي للرياضيات عند المسلمين يبدأ مع القرآن الكريم، وذلك فيما ورد في القرآن من أحكامٍ مُعقّدةٍ في تقسيم الميراث. ولكنّ الخوارزمي، يُعتبر أول رياضي مسلم كبير. ونحن مدينون له بمحاولة وضع تنظيم منهجي باللغة العربية لكلّ المعارف العلمية والتقويم. كما نُدين له باللفظ الإسباني خواريزمو، الذي يعني الترقيم، أي الأعداد ومنازلها والصفر. وهذا اللّفظ الإسباني يُكتب في الإنجليزية لوغاريتم (Logarithm)، وهو مشتقّ من اسم الخوارزمي".
لم يكن الخوارزمي منقطعًا عن واقع زمنه، بل عمل على وضع الآليّات العلميّة التي تُساعد على حلّ مشاكل الحياة اليومية للناس. كان عِلمه علمًا عَمَليًّا إذن، ولم يكن بحثًا نظريًا مجرّدًا أو مستقلًّا عن مجريات واقع الحال. الخوارزمي نفسه أقرَّ بأنّ مساهمته إنّما تتغيّا تسهيل الحساب "الذي يحتاجه الناس في ميراثهم ووصاياهم وتقاسماتهم وأحكامهم، في تجارتهم وفي كل المعاملات التي يقومون بها، بخصوص قياس مساحات الأرض وحفر القنوات والهندسة وباقي الأمور المرتبطة بهذه المناحي والفنون".
لم ينطلق الخوارزمي من فراغ. لقد بدأ بترجمة ونقل نظام الأعداد الهندسيّة وألّف فيه. ثم عمد فيما بعد إلى تأليف كتابه الأساس في الحساب "الجمع والطرح وفنّ الحساب الهندي". وقد بوّبه بطريقةٍ منهجيةٍ، حتى إذا تُُرجم إلى الإنجليزية فيما بعد، ظلّ "مَرْجَعًا للعلماء والتجّار وأهل صنعة الحساب في أوروبا قرونًا طويلة".
خوارزميّات الثورة الرقمية هي اليوم مادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
على أنّ كتابه "الجبر والمقابلة" هو الأشمل على الإطلاق، لأنّه وضع حلول الدرجة الثانية بطرقٍ هندسيةٍ مبتكرةٍ، كما أوجد رموزًا للجذور والمربّع والمكعّب والمجهول.
وإذا كان اسم الخوارزمي قد جاء مرتبطًا بالرياضيّات والجبر والهندسة، فإنّه أضحى مرتبطًا أيضًا بالمعلوماتيّة، حيث كلّ عملية تتطلّع لحلّ إشكالٍ حسابيّ، تخضع لتسلسلٍ في التوجيهات والإرشادات بناءً على سلسلةٍ متواليةٍ من الأرقام والأعداد.
الخوارزمي بَشَّرَ إذن ومن زمنٍ بعيدٍ بالثورة الرقمية، أي بهذا النظام المعلوماتيّ المرتكز على الرياضيات والجبر وعلى ثنائيات الـ0 والـ1، باعتبارها لغة الحواسيب وسرّ ترابطاتها. خوارزميّات الثورة الرقمية هي بالتالي مجموعة من الخطوات الرياضية المنطقية والمُتسلسلة الضرورية لحلّ مشكلة ما. إنّها تتغذّى على المعلومات وعلى المعطيات الضخمة. هي المادة التي تتمرّن عليها وتتعلّم منها آليًا، وتقرّر البناء عليها. هي اليوم، مادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي القادرة على توليد المزيد من المعطيات، لأنّها أكثر تطوّرًا وذكاءً من الخوارزميات التقليدية المعهودة. لقد باتت أداةً أساسيةً في توجيه القرار وتحديد منحاه، إمّا بجهة استشراف آفاق الأمراض المُستعصية مثلًا بغرض علاجها، فتكون أداة بناءٍ، وإمّا بجهة تحريفها عن مبتغاها لتصبح أداة تجسّس أو إبادة كما في غزّة، فتكون وسيلة هدمٍ وخرابٍ للعمران.
(خاص "عروبة 22")