صحافة

سوق الغاز الأوروبية ومحادثات إنهاء حرب أوكرانيا

وليد خدوري

المشاركة
سوق الغاز الأوروبية ومحادثات إنهاء حرب أوكرانيا

تدل الأخبار الصادرة عن اجتماع القمة الأميركية - الروسية في ألاسكا وما تبعتها من اجتماعات في البيت الأبيض مع القادة الأوروبيين، أن هناك مؤشرات إيجابية على إمكان إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية، رغم عدم التوصل إلى اتفاق نهائي حول كيفية إنهائها، وعدم الإعلان حتى الآن إذا ما كانت ستتوقف عن طريق اتفاق لوقف إطلاق النار أو الهدنة، أم إذا ما كان سيتم في نهاية الأمر توقيع معاهدة سلام. ولم يصدر كذلك بيان رسمي نهائي عن الشروط الجيوسياسية... هل من الممكن التوصل إلى اتفاق لتبادل الأراضي بين روسيا وأوكرانيا، أو تنازل أوكرانيا عن الأراضي المحتلة - رغم معارضة دستور البلاد للتنازل عن أراضي البلاد.

وماذا عن الدفاع عن أوكرانيا في حال هجوم روسي مستقبلي: هل ستشارك الولايات المتحدة بجنودها أم بأسلحتها، أم ستكتفي بالدفاع الجوي عن أوكرانيا؟ وهناك طبعاً، المشاركة العسكرية الأوروبية في حال انضمام أوكرانيا إلى اتفاقية السوق الأوروبية المشتركة. هل أوروبا مستعدة فعلا لمحاربة روسيا من دون مساندة الولايات المتحدة؟ تدل هذه الاحتمالات على بعض البنود التي سيتوجب الاتفاق عليها قبل إنهاء هذه الحرب. وما سفر القادة الأوروبيين إلى واشنطن بعد قمة ألاسكا للاستماع إلى أجوبة واضحة من الرئيس ترمب عن نتائج المفاوضات الثنائية مع الرئيس بوتين، إلا دليل على ذلك. وقد اجتمع ترمب مع الأوروبيين في ظل قلقهم من "اتفاقية ميونيخ" ثانية مماثلة للاتفاقية التي تمت مع ألمانيا النازية قبل بدء الحرب العالمية الثانية. رد وزير الخارجية الروسي على هذا التخوف، بتصريح تلفزيوني قائلاً: "نحن أيضاً لا نثق بالسياسات والتعهدات الأوروبية. لكننا في الوقت نفسه، ننفذ ما نلتزم به. فإذا كان الأوروبيون لا يثقون بسياساتنا، فهذه مشكلتهم".

هذه المقدمة الجيوسياسية مهمة لتفهم الطريق الصعب لإنهاء حرب أوكرانيا، وما هي الأهداف الروسية؟ هل هي إيقاف محاولات ضم أقطار أوروبا الشرقية المتاخمة للحدود الروسية إلى الحلف الأطلسي، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف حرباً مع القوى العسكرية الغربية بأكملها، أوروبا وأميركا... أم أن الهدف فقط احتلال أجزاء من شرق أوكرانيا، التي كانت على صلة قريبة بروسيا تاريخياً؟ إن افتراض صعوبة الحصول على سلام واضح وسريع، قد يعني على ضوء تجربة السياسات الأميركية الاستمرار في العقوبات على روسيا، ومعها في ذلك الحظر الأوروبي على الغاز الروسي.

هذا الافتراض سيعني بدوره استمرار تنويع مصادر استيراد الغاز إلى السوق الأوروبية، وذلك من خلال تنويع المصادر، وأهمها الآتي: الغاز المسال من الولايات المتحدة وقطر والجزائر وموزمبيق ومصر وإسرائيل ومحاولة تشييد موانٍ إضافية لاستيراد إمدادات متزايدة من الغاز المسال من دول أخرى. هذا بالإضافة إلى الاستيراد عن طريق الأنابيب من الجزائر- نيجيريا عبر الخط الذي تم تشييد معظمه عبر الساحل الأفريقي الغربي وليبيا والنرويج وأذربيجان.

أما في حال افتراض التوصل إلى اتفاق سلام ورفع الحظر الأميركي - الأوروبي عن النفط الروسي، فستتوفر لدى أوروبا إمدادات وافية من الغاز، نظراً لتمكنها حينها من إحلال تنافس كبير بين الدول المصدرة، الأمر الذي قد يساعدها في المفاوضات السعرية للغاز المستورد. إن عودة الأمور إلى سياقها السلمي إلى أوروبا ستعني إمكانية إعادة استيراد كميات ضخمة من الغاز الروسي عبر شبكات تصدير الغاز الروسي التي تم البدء في تشييدها منذ عام 1985 والتي زودت السوق الأوروبية بأغلب إمداداتها الغازية حتى بدء حرب أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، سيُفتح المجال أيضاً لتسلم صادرات الغاز المسال الأميركي.

من المعروف أن الغاز يشكل أحد موارد الطاقة الرئيسة لأوروبا. وتكمن مشكلة أوروبا في حاجتها المستمرة في كل الحالات إلى ضرورة استيرادها للغاز بكميات ضخمة، ناهيك عن النفط. هناك محاولات، كما في الولايات المتحدة، لتوليد الطاقة من التركيز أكثر على المفاعلات النووية. وتتزعم فرنسا هذا الاهتمام النووي أوروبياً. لكن الطريق النووي طويل وباهظ الثمن بخلاف الولايات المتحدة التي تعمل على إعادة تأهيل فاستعمال المفاعلات المتوسطة الحجم، التي تم تقاعدها.

في حال الحصول على اتفاق سلام واضح في مسألة أوكرانيا، يتوقع أن يحصل تنافس حاد في مسألة التصدير من قبل كل من الولايات المتحدة وروسيا. فترمب يصر على تبني سياسة "أميركا أولاً"، بالإضافة إلى تحسين الميزان التجاري ما بين الولايات المتحدة وأوروبا، الذي هو حاليا لصالح أوروبا. فمن الممكن أن تختار الأسواق الأوروبية زيادة استيراد الغاز المسال الأميركي لسد هذا العجز في الميزان التجاري ولتلبية طلبات ترمب. لكن هذا الخيار، كغيره من الخيارات، يعتمد على سعر الغاز. ومن الواضح أن سعر الغاز المسال يفوق عادة سعر الإمدادات الغازية بالأنابيب.

هناك عوامل أخرى تلعب دوراً مهماً... إذ يتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في تنويع مصادر استيرادها للغاز، لكي لا تعتمد مرة أخرى على استيراد الأغلبية الساحقة لإمداداتها من دولة واحدة، كما كان استيرادها الضخم من روسيا قبل 2022. وفي هذه الحال، يُتوقع منافسة قوية سعرية وجيوسياسية ما بين الغاز المسال الأميركي وغاز الأنابيب الروسي. سيختلف التعامل الأوروبي ما بين الطرفين. ففي حال الولايات المتحدة، يتم تصدير الغاز المسال من قبل شركات خاصة. لكن هذه الشركات تواجه ضغطاً من الرأي العام الأميركي كلما زادت من صادراتها، لأن زيادة التصدير تؤدي إلى تقليص إمدادات الغاز للسوق الأميركية، مما يزيد من أسعار الغاز المحلية في الولايات المتحدة. لكن الأمر يختلف كلياً من الجانب الروسي، إذ تقوم شركة "غازبروم" بتصدير معظم الغاز الروسي إلى أوروبا. وتشارك الحكومة الروسية بحصص ضخمة أو لديها نفوذ واسع في معظم الشركات النفطية.

وبالتالي، سيتوجب في ظل هذه العوامل، أن تلعب الأسواق الأوروبية دوراً دقيقاً في كل من التوازن ما بين سياسة تنويع المصادر، والتوازن ما بين الإمدادات الأميركية والروسية. وطبعا عندما نتكلم عن أوروبا، فالحديث عن أسواق دول متعددة، حيث تقليدياً، استوردت الدول الشمالية منها الغاز الروسي عبر الأنابيب، رغم أنها -وبالذات ألمانياـ قد شيدت مواني متخصصة منذ حرب أوكرانيا لاستيراد الغاز المسال. هذا، وقد اعتمدت دول أوروبا الشرقية على الغاز الروسي المصدر عبر شبكة الأنابيب الروسية الواسعة إلى أوروبا. ومن جهتها، اعتمدت أقطار أوروبا الجنوبية والغربية على استيراد الغاز، إما عبر الأنابيب أو كغاز مسال من الدول الأفريقية أو الشرق المتوسطية.

أما بالنسبة إلى سياسة الاستيراد من الولايات المتحدة وروسيا، فستتغلب فيها العوامل الجيواستراتيجية والمعادلات السعرية، نظراً إلى الإمدادات الضخمة التي يمكن استيرادها من الطرفين والضغوط السياسية المتوقعة لكل طرف في تشجيع التصدير إلى السوق الأوروبية الضخمة.

(الشرق الأوسط)

يتم التصفح الآن