الأمن القومي العربي

الخطر "المركزي"

حين صرّح بنيامين نتنياهو بأنّه مؤمن بأسطورة "إسرائيل الكبرى" الممتدّة من النيل إلى الفرات، لم يكن ينطق من فراغ، ولا يُطلق جملةً عابرةً لشدّ انتباه جمهوره الانتخابي. بل كان يُعيد إنتاج واحدةٍ من أخطر الركائز الإيديولوجية في العقل الصهيوني، تلك التي ترى أنّ المشروع الإسرائيلي لم يكتمل بعد، وأنّ حدوده مفتوحة على المزيد من التوسّع، وأنّ "أرض الميعاد" لا تقف عند حدود فلسطين التاريخيّة. هذا الاعتقاد لم يتوقّف عند التنظير الديني أو الإيديولوجي، بل وجد ترجماته العمليّة في حركة التوسّع الإسرائيلي منذ لحظة التأسيس.

الخطر

بالنّظر إلى الخرائط، وهي الأداة الأكثر صدقًا والأقل خضوعًا للمُجادلة، نُدرك أنّ مساحة إسرائيل لم تعرف الثبات أبدًا: من كيانٍ صغيرٍ أقرّته الأمم المتحدة عام 1947 إلى دولةٍ توسّعت بالحرب والاحتلال عام 1948، ثم ضاعفت مساحتها بالعدوان عام 1967، لتستمرّ بعدها في سياسة "الزحف الصامت" عبر الاستيطان والضمّ والتهويد.

كلّ هذا يُثبت أنّ إسرائيل ليست مجرّد دولةٍ تسعى للعيش في حدودٍ آمنة، كما تدّعي دعايتها، بل هي أكبر عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، وأنّ نزعتها التوسّعية تجعلها الخطر المركزي الدائم، الذي تتضاءل أمامه أي أخطار أخرى. وهو ما يمنح شرعية وجودٍ لقوى المقاومة، ويجعل خطابها مُستندًا إلى حقيقةٍ واقعيّةٍ، لا مجرّد شعارات. النزعة التوسّعية الإسرائيلية لا تخلق فقط حروبًا وصراعاتٍ، بل تضمن أيضًا استمرار خطاب المقاومة وممارساتها بكلّ ما لها وما عليها.

إسرائيل لا تقف عند حدود بل تبتلع المزيد كلّما سنحت الفرصة

شعار "إسرائيل الكبرى" ليس بدعة نتنياهو وحده، بل فكرة قديمة مُتجذّرة في المشروع الصهيوني منذ نشأته. الأدبيات التوراتيّة التي أُعيد توظيفها سياسيًا في القرن التاسع عشر رسمت حدودًا وهميةً لكيانٍ يضم أراضي من مصر إلى العراق، ومن سوريا إلى الجزيرة العربية.

وقد انعكست هذه العقيدة في رموزٍ مبكرةٍ للحركة الصهيونية؛ ففي بعض الطوابع والنشرات التي أصدرها المستوطنون الأوائل ظهرت خريطة تشمل النيل والفرات تحت نجمة داود. هذه ليست تفاصيل شكليّة، بل دلائل على أنّ الفكرة التوسّعية ليست "خطرًا نظريًا" بل هي هدف مُستبطن.

وعلى مدار العقود، ظلّ الخطاب السياسي الإسرائيلي يُراوح ما بين المُجاهرة بهذا الهدف حين تسمح الظروف، أو التغطية عليه حين تقتضي الحاجة. لكنّ السياسات العملية على الأرض كانت تسير في اتجاهٍ واحد: التوسّع ثم التوسّع.

إذا أردنا أن نختصر تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي في جملةٍ واحدة، فلن نجد أوضح من عبارة: "انظروا إلى الخرائط".

- فلسطين قبل 1948: أرض كاملة يسكنها الفلسطينيون، مع أقلّية يهودية مهاجرة.

- قرار التقسيم 1947: منح اليهود، الذين كانوا أقليةً، 55% من الأرض.

- حرب 1948: انتهت بسيطرة إسرائيل على 78% من فلسطين، وتشريد أكثر من 700 ألف فلسطيني.

- حرب 1967: ابتلعت إسرائيل ما تبقّى من فلسطين (الضفّة وغزّة)، إضافة إلى الجولان وسيناء. وفي مطلع الثمانينيّات جنوب لبنان.

- ما بعد أوسلو من التسعينيّات إلى اليوم: لم تعد الضفّة الغربية سوى جزر متناثرة وسط محيط استيطاني متصل، فيما تحوّلت غزّة إلى أكبر سجنٍ مفتوحٍ في العالم.

بهذا المعنى، الخرائط هي الشاهد الأصدق على طبيعة المشروع الإسرائيلي. إسرائيل دولة لا تقف عند حدود، بل تبتلع المزيد كلّما سنحت الفرصة. والادّعاء أنّها "تدافع عن نفسها" هو مجرّد غطاء لعدوانٍ مستمر، يستخدم الحرب والاستيطان والعنف كأدواتٍ طبيعيةٍ للوجود.

خلافات العالم العربي البينيّة تُتيح لإسرائيل التمدّد بلا رادع

لا توجد دولة في المنطقة كان وجودها سببًا مباشرًا في إشعال كلّ هذا الكمّ من الحروب والنزاعات مثل إسرائيل. فمنذ 1948، لم تعرف المنطقة عقدًا واحدًا من دون مواجهة عسكرية، سواء مع الفلسطينيين أو لبنان أو سوريا أو مصر. وحتّى حين لا تكون في حربٍ شاملةٍ، تبقى إسرائيل في حالةٍ عدوانيةٍ دائمةٍ عبر القصف، الاغتيالات، الاعتداءات، التوغّلات، الحصار، والتهويد.

هذا الطابع العدواني جعلها مصدر قلقٍ دائمٍ لجوارها. فبينما تسعى الأمم عادةً لترسيخ السلم والتكامل الاقتصادي والجوار الآمن، ظلّت إسرائيل تعيش على النّقيض: دولة لا بقاء لها إلا بالصراع، ولا هوية لها إلا بالتوسّع. ومن ثمّ فإنّ وجودها بصيغتها الحالية يعني أنّ المنطقة محكوم عليها بالاضطراب المزمن.

في مواجهة هذا الخطر المركزي، لا يكفي أن يتعامل العالم العربي بسياسات ردّ الفعل، أو أن ينشغل بخلافاته البينيّة التي تُتيح لإسرائيل التمدّد بلا رادع. المطلوب هو:

- على العرب أن يوحّدوا خطابهم الخارجي ليكشفوا للعالم أنّ إسرائيل ليست "دولةً مُحاصَرةً" تحتاج لضمانات، بل هي الخطر الأكبر على السلم الإقليمي والدولي. الخرائط هنا أقوى سلاح: فهي لا تكذب ولا يمكن تزييفها.

- يجب قلب مُعادلة الخطاب السياسي. التهديد الحقيقي للأمن الإقليمي هو المشروع الإسرائيلي التوسّعي. العرب هم من يحتاجون إلى تطمينات وضمانات ضدّ خطر إسرائيل، لا العكس.

- على المستوى الديبلوماسي: تحريك هذا الملف في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات الدولية، مع الاستناد إلى القرارات الأمميّة والخرائط.

- على المستوى الإعلامي: تفكيك الأساطير الصهيونية، وتفنيد خطاب "إسرائيل الدولة الصغيرة المُحاطة بالأعداء".

- على المستوى الأمني: بناء منظومة ردع إقليمي قادرة على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، ولو بالحدّ الأدنى من التنسيق الدفاعي.

- على المستوى الاقتصادي: إدراك أنّ التطبيع الاقتصادي بلا أفق سياسي يُكرّس التوسّع الإسرائيلي ولا يحدّ منه.

المطلوب من العرب أن يستعيدوا زمام المبادرة وأن يبنوا استراتيجيةً تعكس حقائق الأرض لا أوهام الدعاية

الخُلاصة التي لا مفرّ منها أنّ إسرائيل ليست كيانًا طبيعيًا يمكن التعايش معه ضمن حدودٍ مرسومةٍ، بل مشروع توسّعي مفتوح. هذه الحقيقة التي يُثبتها التاريخ، والخرائط هي ما يجعلها الخطر المركزي على أمن المنطقة.

إنّ أي محاولة لتجاهُل هذه الحقيقة، أو القفز فوقها بدعوى البحث عن "سلام" غير قادر على كبح تلك النزعة التوسّعية، لن تؤدّيَ إلّا إلى المزيد من الحروب والأزمات.

المطلوب من العرب أن يستعيدوا زمام المبادرة: أن يُعرّفوا للعالم من جديد ماهية التهديد الحقيقي في المنطقة، وأن يبنوا خطابًا واستراتيجيةً تعكس حقائق الأرض لا أوهام الدعاية. عندها فقط، يمكن الحديث عن أمنٍ إقليميّ حقيقيّ، وعن مستقبلٍ للمنطقة يتجاوز لعنة الصراع المستمرّ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن