تتواصل لعبة التأجيل والمناورة التي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مسار الحرب بأوكرانيا، إذ لا تزال مطالبه تُعد بمثابة استسلام كامل من جانب كييف. فوفق مصادر دبلوماسية، يشترط الكرملين أن تتخلى أوكرانيا عن نيتها في الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وألا تستقبل قوات غربية على أراضيها في أي اتفاق سلام مُقبل. هذا الشرط يعني عملياً نسف أي صيغة لضمانات أمنية غربية يمكن أن تمنح كييف شعوراً بالاطمئنان، بل يمنح ذلك موسكو حق الاعتراض المُسبق على أي ضمان دولي. مسؤولون أمنيون أكدوا أن هذه المطالب ليست سوى صياغة جديدة لفكرة "الفيتو الروسي" على مستقبل أوكرانيا، وهو أمر يصعب على الأوروبيين والأميركيين القبول به.
وتشير مصادر أخرى إلى أن موسكو متمسكة كذلك بمطلب السيطرة الكاملة على إقليم دونباس الشرقي، بما في ذلك المناطق التي لا تخضع بعدُ لسيطرة قواتها. صحيح أن روسيا أبدت "مرونة نسبية" حين لم تصر على الاستحواذ على كامل مقاطعتي خيرسون وزابوريجيا، لكنها تواصل فرض معادلة تثبيت الخطوط الحالية مقابل وقف إطلاق النار. ويرى دبلوماسيون أن هذه الصيغة تُمثّل معضلة حقيقية لكييف، إذ تعني تثبيت مكاسب روسيا الميدانية ومنحها شرعية سياسية مقابل تجميد القتال، وهو ما يشبه فخاً لا تستطيع القيادة الأوكرانية القبول به من دون أن تخاطر بانهيار داخلي، بعدما قدّم شعبها تضحيات هائلة دفاعاً عن الأرض.
مصادر أمنية ترى أن أفضل سيناريو واقعي أمام أوكرانيا هو القبول بما يشبه "تجميد النزاع" على الخطوط الحالية، أي أن تبقى القوات الروسية حيث وصلت. غير أن هذه التسوية المؤقتة تطرح سؤالاً وجودياً: كيف يمكن لكييف أن تتنازل عن أراضٍ دافعت عنها بشراسة وخسرت آلاف الجنود من دون أن تكون مُجبرة ميدانياً؟ بالنسبة إلى كثير من المراقبين، يعد ذلك انتحاراً سياسياً للقيادة الأوكرانية التي تواجه أصلاً ضغطاً داخلياً زائداً. لكنّ الحقيقة التي يعترف بها معظم الدبلوماسيين، هي أن أوكرانيا قد تُضطر في النهاية لدفع "ثمن إقليمي" كبير، حتى ولو كان ذلك عبر مفاوضات طويلة. ويعد بعض المحللين أن موسكو تراهن على عامل الوقت، إذ كلما طالت الحرب وكلما واصل الغرب التردد في حسم الدعم العسكري، تمكنت روسيا من تحقيق مكاسب تدريجية على الأرض تجعل كييف أقل قدرة على المناورة السياسية.
أما في واشنطن، فما زالت ردود الفعل غير محسومة. الرئيس الأميركي دونالد ترمب لوّح سابقاً بفرض عقوبات واسعة على موسكو إذا لم تُبدِ جدية في التفاوض، لكنّ مسؤولين أمنيين يرون أن الكرملين لم يتأثر حتى الآن بالتهديدات، وأن العقوبات الاقتصادية مهما بلغت شدتها لن تغيّر سلوك القيادة الروسية سريعاً. ويشير دبلوماسيون إلى أن غياب استراتيجية غربية موحدة يجعل موسكو أكثر ارتياحاً للاستمرار في المعركة طوال عام 2025 على الأقل، بانتظار تغييرات محتملة في المواقف الدولية.
في المقابل، تحاول كييف مواجهة الضغوط عبر تعزيز صناعتها الدفاعية وتقليل اعتمادها على الإمدادات الغربية. فقد كشفت عن تطوير صاروخ بعيد المدى أُطلق عليه اسم "فلامينغو"، يُقال إن مداه يصل إلى ثلاثة آلاف كيلومتر، أي ما يعادل عشرة أضعاف مدى الصواريخ الغربية التي حصلت عليها من حلفائها. وأوضحت مصادر أمنية أن إدخال هذا النوع من السلاح إلى الخدمة يمكن أن يقلب المعادلة، لأنه يمنح أوكرانيا قدرة على ضرب أهداف عسكرية عميقة في الداخل الروسي، وهو ما قد يغيّر حسابات الردع والتفاوض معاً. ويؤكد مراقبون أن بدء الإنتاج الواسع لهذه الصواريخ مع نهاية الشتاء قد يُشكّل رسالة قوية أن أوكرانيا لا تنوي الاستسلام لمعادلة فرضها الطرف الآخر.
على الصعيد الأوروبي، تزداد المخاوف من الهجمات الروسية في "المنطقة الرمادية"، حيث سجّلت مراكز بحثية متخصصة ارتفاعاً كبيراً في عمليات التخريب والتخويف والاعتداءات ضد البُنى التحتية الأوروبية منذ عام 2023. ويقول مسؤولون دبلوماسيون إن هذه الاعتداءات تستهدف بشكل رئيسي الجهود الأوروبية لتزويد أوكرانيا بالسلاح والمعدات، وتكشف هشاشة التنسيق الأوروبي في الرد عليها. وحذّرت مصادر أمنية من أن التعامل الغربي مع هذا التهديد لا يزال دفاعياً ومتأخراً، وأن الاستمرار في هذا النهج يمنح روسيا اليد العليا في معركة الاستنزاف غير العسكرية.
في هذا السياق، أعلنت هولندا إرسال منظومتين من صواريخ "باتريوت" مع مئات الجنود إلى بولندا لتعزيز الدفاعات الجوية هناك، خصوصاً بعد سقوط طائرة مسيّرة روسية على الأراضي البولندية. وربطت مصادر أوروبية الخطوة بالخوف من امتداد الحرب إلى دول الجوار، مشيرة إلى أن الدعم الغربي يظل ضرورياً لضمان استمرار تدفق المساعدات إلى كييف عبر الأراضي البولندية. ويأتي ذلك في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من تراجع مخزونها من هذه الأنظمة الدفاعية بعد استخدامها بكثافة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ما يضع واشنطن أمام تحدي إعادة بناء ترسانتها.
ومن الملفات الموازية، لا يزال التحقيق مفتوحاً بشأن تفجير أنابيب "نورد ستريم" عام 2022، فقد أوقفت السلطات الإيطالية أحد المشتبه بهم الأوكرانيين سيرغي كوزنتسوف، ما دفع برلين إلى التأكيد أن القضية لا تحمل بُعداً سياسياً، وأن دعمها لكييف باقٍ من دون تغيير. وفي المقابل، استغلت موسكو الحادث لتكرار اتهام الغرب بمحاولة عرقلة تصدير غازها إلى أوروبا. في المحصلة، تبدو صورة الصراع مرشحة لمزيد من التعقيد. فروسيا تراهن على عامل الوقت وعلى تفكك الإرادة الغربية، فيما تحاول أوكرانيا الصمود عبر تطوير قدراتها الهجومية، وطلب مزيد من الدعم.
أما أوروبا، فهي غارقة بين ضرورة مواجهة الهجمات الرمادية الروسية وبين ضغوط اقتصادية وسياسية داخلية تجعل وحدتها على المحك. وفي ظل غياب أفق حقيقي لتسوية شاملة، يبقى الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو استمرار الحرب بوتيرة منخفضة مع مفاوضات متقطعة، بحيث تُكرّس موسكو مكاسبها وتُنهك أوكرانيا تدريجياً. وترى مصادر دبلوماسية أن هذه هي "الوصفة المثالية" لسيناريو حرب طويلة الأمد، قد تُعيد رسم خريطة الأمن الأوروبي لعقود مقبلة.
(الشرق الأوسط)