صحافة

مفتاح الصفقة أم التصعيد في واشنطن؟

جمال زحالقة

المشاركة
مفتاح الصفقة أم التصعيد في واشنطن؟

بعد مضي عشرة أيام على موافقة "حماس" على "صفقة ويتكوف" المرحلية، وقبولها تقريبا لجميع الشروط الأمريكية – الإسرائيلية فيها، ما زالت إسرائيل محجمة عن الرد المباشر على هذا التطوّر. وقد اعتقد البعض أن الرد الإسرائيلي سيأتي بعد جلسة الكابينت يوم الثلاثاء الفائت. بيد أن الجلسة خرجت بلا قرارات، ولم تأتِ بجديد، وما جرى فيها كان عرضا عاما عن الأوضاع السياسية الأمنية الإقليمية، ولم يتم بحث موضوع الصفقة ومقترحات وقف الحرب. ومع ذلك، من اللافت أن نتنياهو أكّد مجدّدا تمسّكه بالصفقة الشاملة، وعاد ورفض مرّة أخرى الالتزام بالامتناع عن الذهاب إلى صفقة مرحلية، كما طلب منه الوزيران سموتريتش وبن غفير. ويبدو أن موقف إسرائيل – نتنياهو الحالي هو الاندفاع بقوّة نحو احتلال مباشر مجدد لمدينة غزة، مع إبقاء الباب مواربا لصفقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وفي الوقت الذي عقدت فيه جلسة الكابينت، جرت مظاهرات صاخبة شارك فيها عشرات الآلاف من الإسرائيليين، الذين رفعوا شعارات ورددوا هتافات المطالبة بصفقة فورية لإطلاق سراح جميع المحتجزين، وإنهاء الحرب. وهاجم المتحدثون في المظاهرات شروط نتنياهو الخمسة لوقف الحرب واعتبروها محاولة لإطالة أمد القتال لا لوقفه. وقد تزايدت وتوسّعت خلال الأسبوع المنصرم مظاهر الاحتجاج وارتفعت حدّة الضغوط الداخلية على حكومة نتنياهو. لكن يبدو أن السخط الجماهيري لا يؤثّر كثيرا على نتنياهو، ما دام محصورا بالأوساط المناهضة له أصلا. ما يقلقه كثيرا هو أن غالبية الجمهور الإسرائيلي، بمن فيه قسم كبير من مؤيديه، تدعم صفقة شاملة فورية، بلا شروط تعجيزية، وما يزعجه أكثر هو انعكاس ذلك في استطلاعات الرأي حول قوة الأحزاب، التي تُظهر نتائجها مرارا وتكرارا، أن ائتلاف نتنياهو يحصل على حوالي 50 عضوا في الكنيست فقط، مقابل 68 نائبا في ائتلافه الحالي.

ومن الواضح أن "حالة الائتلاف" في الواقع وفي الاستطلاعات هي عامل مؤثّر جدا على خيارات نتنياهو، بين التصعيد والاحتلال والصفقة وإنهاء الحرب. وهو، كما يبدو، ينوي مواصلة الحرب إلى حين يستطيع إعلان النصر المطلق والذهاب إلى الانتخابات. وبما أن هذا النصر هو سراب يبتعد كلّما يُقترب منه، فإن احتمال تأجيل الانتخابات الإسرائيلية ـ ومعه استمرار الحرب- أصبح واردا، كما يقول الكثير من المحللين الإسرائيليين.

يبدو في هذه المرحلة الدقيقة من حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة، أنّ خيار التصعيد أو التهدئة هو قرار أمريكي بامتياز. صحيح أن الموقف الأمريكي قد تحوّل مؤخّرا إلى صدى للموقف الإسرائيلي، لكنّه "صدى" بقرار واعٍ من الإدارة الأمريكية، التي اختارت أن تنتظر القرار الإسرائيلي حتى تحسم رأيها. لكن واشنطن تستطيع في أي لحظة وفي كل محطّة أن تخرج عن "طاعة" إسرائيل، على اعتبار الذنَب يحرّك الرأس ما دام الدماغ داخله لا مباليا، لكن حين يزمع الرأس فهو يستطيع هزّ الذيل بالاتجاه الذي يبتغيه.

التوجّه السياسي والعسكري في إسرائيل مرتبط إلى حد كبير جدا بما يجري في واشنطن. وقد ذهب الجنرال يعقوب عميدرور، المقرّب من نتنياهو والمؤثّر عليه، إلى القول في مقابلة مع إذاعة إسرائيلية: "إذا ضغط الأمريكيون، علينا الذهاب إلى الصفقة، وإن لم يضغطوا ما لنا الّا مواصلة القتال في غزة"، وامتنع عن التنبّؤ بما سيحدث، مبررا ذلك بعدم وضوح الموقف الأمريكي وشحّ التسريبات الجدية بشأنه. ما زال الحديث عن صفقة شاملة والموقف الأمريكي بخصوصها يثير التساؤلات: هل هي صفقة شاملة مباشرة؟ ما يعني عمليا مواصلة التصعيد العسكري بانتظار أن تنضج ظروف لصفقة تلبي الشروط الأمريكية ـ الإسرائيلية، أم هي صفقة شاملة متدرّجة؟ تبدأ فورا بصفقة ويتكوف التي وافقت عليها حماس وإسرائيل، لتبدأ بعدها مفاوضات خلال 60 يوما من الهدنة قد تفضي إلى التوصل إلى اتفاق شامل بإنهاء الحرب وتبادل الأسرى.

ليس واضحا بعد ما يجري في واشنطن بخصوص حرب الإبادة في غزّة، بعد أن "نجح" وزير الشؤون الاستراتيجية والمبعوث الشخصي لنتنياهو، رون ديرمر، بإقناع الإدارة الأمريكية، أن إسرائيل قادرة على تحقيق حسم سريع في غزة يتيح المجال لإنهاء الحرب بالشروط الإسرائيلية (والأمريكية). ومن جهة أخرى لا بد أنه وصلت واشنطن مضامين تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، عن أن الحرب ستكون "مصيدة موت" وبحاجة إلى تحضير طويل وتنفيذ أطول. لقد أثار تصريح ترامب: "اعتقد أنه خلال الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة، ستكون هناك نهاية جيّدة وحاسمة للحرب" ردود فعل متباينة تراوحت بين الاستخفاف بهوس ترامب بمدة الأسبوعين، ومحاولات التحقق من خلفية ما قاله.

الأفضل عدم الاستهتار بأقوال ترامب، لأنّها قد تحمل معاني في غاية الأهمية، خاصة وأنّه فعلا قادر على إنهاء الحرب "خلال أسبوعين" إن شاء ذلك، فهناك مقترح جاهز ومتوافق عليه مبدئيا، يمكن الشروع بتطبيقه خلال فترة وجيزة، وهو يشمل هدنة لمدة 60 يوما تجري خلالها مفاوضات مكثّفة لإنهاء الحرب، وهناك احتمال بأن يتم الاتفاق على ذلك، إذا ألقت الإدارة الأمريكية بثقلها في المباحثات. هذه إمكانية، والأرجحية الأخرى هي أن ترامب يصدّق فعلا أن الاجتياح الإسرائيلي الجديد لغزة سيؤدّي إلى حسم الحرب وإنهاءها بسرعة، كما شرح له ديرمر في الأسابيع الأخيرة. ومن الممكن أيضا أن إسرائيل أجّلت ردها على موافقة حماس على الصفقة الجزئية، أملا باحتمال أن يعرج ترامب لزيارة إسرائيل (قبل وصوله إلى بريطانيا في 17 سبتمبر المقبل) ويعلن خلالها عن "صفقة متدرّجة" شاملة، تبدأ على الفور بالصفقة الجزئية المتوافق عليها مبدئيا.

يبدو أن الإدارة الأمريكية تعد لتحرّك ما بشأن غزّة، فقد صرّح الموفد الخاص، ستيف ويتكوف أن الإدارة الأمريكية "تسعى لحل شامل ينهي الحرب قبل نهاية هذا العام"، مضيفا يجري التحضير لاجتماع كبير في واشنطن، نهاية الأسبوع الحالي، بشأن "خطة ما بعد الحرب". وإذا صح كلام ترامب وويتكوف فلا تناقض بينهما: الحرب تتوقف خلال أسابيع والاتفاق النهائي حتى نهاية العام. لكن لا يجوز الاستهتار بقدرة نتنياهو على إقناع ترامب بتبريد الحراك الأمريكي لوقف الحرب، خاصة إذا أراد الأخير أن يقتنع. ولا يبدو حاليا أن الرئيس الأمريكي قد قرر "الاستقلال" عن الموقف الإسرائيلي بشأن حرب الإبادة في غزة. صحيح أن المفتاح بات بيد واشنطن، لكن يبدو أنها لم تقرر بعد أن تستعمله لفتح "القفل الإسرائيلي".

هذا وأثار الإعلان عن الاجتماع الأمريكي الموسّع، الذي دعا إليه ترامب، لبحث مسألة "اليوم التالي" في غزّة ردود فعل فلسطينية غاضبة انطلاقا من أن مصير فلسطين يقرره الفلسطينيون وغزة جزء من فلسطين ومن "الدولة الفلسطينية العتيدة". حقّا هذا كلام صحيح ومهم، لكن تنقصه الترجمة إلى لغة الواقع. فمن يدعو أن "يقرر الفلسطينيون" مصير غزّة عليه أن يطرح فورَ ذلك مسارا لبناء «إرادة عامة» فلسطينية متفق عليها، وليس أن يعيد إنتاج الانقسام الذي يضرب التوافق الفلسطيني في الصميم.

سياسة نتنياهو واضحة وضوح الشمس، فهو يرفض بعناد، ضمن قائمة الرفض الطويلة التي يحملها، أن تكون الإدارة ذاتها في الضفة وغزة، وهو يواصل نهج ترسيخ الانقسام كجزء من حرب الإبادة السياسية على التمثيل الفلسطيني. والسؤال: ماذا يفعل الفلسطينيون لإفشال مخططات نتنياهو المدعومة من ترامب؟ فإذا لم يكن هناك تحرّك جدّي وحاسم لوأد الانقسام، وإنشاء صيغة سياسية متفق عليها حول تمثيل فلسطيني متوافق عليه في إدارة المفاوضات حاليا وإدارة شؤون الضفة وغزة بعد انهاء الحرب، فقد تنجح مخططات نتنياهو – ترامب ولو بحكم فرض الأمر الواقع. إما إذا كان هناك توافق فلسطيني فسوف تغلق أبواب الالتفاف على الفلسطينيين في التخطيط لمستقبل فلسطين.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن