بصمات

الحداثةُ حداثات

تـغـشى وعـي الـدّارسين، في ميـدان تـاريخ الفـكـر، صـورةٌ نـمطيّـة للحـداثـة تكـاد أن تكـون الصّـورةَ السّائـدة لـدى السّـواد الأعظـم منهم، هـي صـورة الحـداثـة الغـربيّـة أو، قُـل، الحـداثـة التي قـدّمـت مجتمعاتُ الغـرب وثـقـافـتُـه نـموذجًـا لـها كـان، مـن غيـر جـدال، الأوّلَ فـي التّـاريـخ الإنـسانـيّ والأبْـعـدَ أثـرًا فـي التّـطـوّر الاجتـمـاعـيّ والثّـقـافـيّ لكـلّ بـلـدان المعـمـور وثـقـافـاتـهـا منـذ القـرن التّـاسـع عـشر.

الحداثةُ حداثات

الحـقّ أنّ الصّـورة (= النّـمطـيّـة) هـذه صحـيـحةٌ بـمـقـدار مـا هـي، في الوقـت عـيـنـه، مبـالَـغٌ فيـهـا وعـاريـة عـن الـدّقّـة؛

فـأمّـا أنّـهـا صحيـحـة فـلأنّ الحـداثـة التي يجـري عنها الكـلام (الحـداثـة الغربـيّـة) فـرضـت نـفسـهـا، لحـقـبـةٍ مـن الزّمـن مـديـدةٍ، بـما هـي مـثـالٌ مـرجـعـيّ يُـحـتَـذَى ويُـنْـسَـج عليه فـي بـلدان عـدّة خـارج الغـرب (الأوروبـيّ - الأميـركـيّ). ولـقـد ظـلّ المثـال هذا جـاذبـًا للـقسـم الأعـظـم مـن تـلك البـلدان منـذ سار اليـابان على مِـطـماره، في القـرن التّـاسـع عشـر، حتّـى ثـمـانـيـنـيّـات القـرن العـشريـن حيـث شـهـدنـا على مـزاحمـة طِـرازات أخـرى مـن الحـداثـة الطّـراز الغـربيّ.

وأمّـا أنّـهـا مـبالَـغٌ فيـها مـفـتـقـرةٌ إلى الـدّقّـة، فـلأنّ دخـول نـمـاذجَ مـن الحـداثـة غيـرِ الغـربـيّـة سـاحـةَ المنـافـسـة (اليـابـان، روسيـا، الصّـيـن، كـوريـا الجـنوبـيّـة، الهـنـد...)، كَـسَـرَ أوْحـديّـةَ النّـمـوذج الغـربـيّ للحـداثـة وقـاد، بالتّـالـي، إلى تسـويـغ الحـديـث عـن حـداثـاتٍ مخـتـلـفـةِ الطُّـرُز لا عـن حـداثـةٍ مـرجـعـيّـةٍ واحـدة.

الأطرزة من الحداثة في البلدان غير الغربيّة نُسخ كربونيّة من نموذج مرجعيّ واحد صنعه الغرب

قـد يُـقـال إنّ لـهـذه الحـداثـات - إن صـحَّ الحـديـثُ عـنـهـا - إطـارًا مـرجـعـيًّـا مـتَـحَـتْ مـنـه وانـتـهـلـتْ هـو نـمـوذجُ الحـداثـة في أصـولـه الغـربـيّـة، وهـذا استـدراكٌ صحـيـحٌ لا مِـرْيـة فـيـه؛ إذْ مـا مِـن جـديـدٍ يـنـشـأ مـن عـدمٍ فـيـبـدأ بـدايـةً صـفـريّـةً مُطلـقـة. حتّـى في الغـرب نـفسِـه، تـولّـدتْ حـداثـةُ مـعـظـمِـه مـن اقـتـداء نـمـوذج بـعـضِـه القـليـلِ ومـن البـنـاء عليـه وحتّـى اسـتـعـارتـه في بـعض الحـالات.

المـراكـزُ الأوروبـيّـة التي أنـتـجتِ الحـداثـة محـدودةٌ: إنكـلـترا، فـرنسـا، ألمانيـا، ومـن هـذه المـراكـز انـتـقـلت الحـداثـة إلى بـاقـي أوروبـا وإلى الولايـات المتّـحـدة الأميـركـيّـة، ثـمّ إلى خـارج الغـرب نـفـسِـه في مـا بـعـد. ولـكـنّ مـن الصّـحيح أن يُـعْـطَـف على ذلك بالقـول إنّ البـلدان والثّـقـافـات التي تَـلَـقَّـتِ الحـداثـةَ بالاحـتـفاءِ والـدّرس ثـمّ بالتّـبـنّـي، فـاسـتـدخـلت قـيمَـها ووطَّـنـتْـها في نسـيجـها الـدّاخـلـيّ، هـيّـأت لتـلـك الحـداثـة تـربـةً وبـيـئـةً مخـتـلـفـتَـيْـن عـن تـربـتـهـا وبـيئـتـهـا الأصـل التي ازدُرِعـتْ فـيها، وهـو مـا أفضـى إلى تـلَـوُّن الحـداثـة بـلـون الاجتـمـاع والثّـقـافـة الجـديـدَيـْن حيـن أثـمـرت نـموذجـها في بـلدان الاستـقـبال والتّـوطيـن.

نـسـمـع كـثيـرًا مـن يـقـول إنّ الحـداثـة شـرعـت في التّـعـمُّـم مـنـذ زحـفـت مـن مـراكـزهـا إلى خـارج الغـرب، ومـنـذ نـجـحـت في أن تَـلْـقَـى الاستـقـبال الإيـجابـيّ لقـيـمـها في مجـتـمـعـاتٍ أخـرى لـم تعـش تـجربـتَـها مـن الـدّاخـل قبـل أن تـبـلُـغها قـيـمُـها مـن خـارجـها. هـذا توصـيفٌ غـيـر دقـيـقٍ لصيـرورات الحـداثـة يُذهـل، تـمامًا، عن جـدلـيّـاتـها وتـفاعـلات أطرافها فـينـظر إليها نظرةً أُحاديّـةً أو، قُـل، مـن جـانبٍ واحـد هـو المـركـز (الغـرب). بهـذا التّـعريـف المبـتـور للحـداثـة يـسْـهُـل، تـمامـًا، إهـدارُ أصـالـة كـلِّ طـرازٍ مـن طُـرُز الحـداثـة المتـحـقّـقـة في عـالـم اليـوم: في اليـابـان أو الصّـيـن أو كـوريـا، بـردّه إلى الطّـراز المـرجـعـيّ الذي كـان الغـرب مـنـبـتَـه، والخـلوصُ مـن ذلك إلى القـول إنّ هـذه الأَطـرزة مـن الحـداثـة، في البـلـدان غيـر الغـربـيّـة، مـحـضُ نـسـخٍ كـربـونـيّـة مـن نـمـوذج مـرجـعيّ واحـد صـنـعـه الغـرب!.

هـكـذا نـصـطـدم بـنـتـيجـةٍ تـتـرتّـب على ذلك كـلِّـه مـفادُهـا أنّ ثـمّـة حـداثـةً واحـدة تـنـتـقـل مـن مـركـزها إلى أطـرافٍ فـتـتـكـوّن لـهـا تـجـلّـيّـات فيها تـبـدو أشـبـه مـا تكـون بـتـقـليـد النّمـوذج الأصـل أو، بلـغـة الموسيـقى، بتـنـويـعات (تـقاسيـم) على مـقـامٍ أصـل؛ ومـا أغـنـانـا عـن القـول إنّ هـذا الضّـرب مـن التّـعريـف الرّثّ للحـداثـة وصيـرورتـها - وهـو التّـعريف السّائـد اليـوم في العـالـم - تَـطْـفِـر مـنـه روائـح المـركـزيّـة الغـربـيّـة...

الحداثة صارت حداثات حينما أصابت أممٌ نجاحًا في تحرير الحداثة من أوحديّتها النّموذجيّة

الحـداثـة عـنـدنـا حـداثـات، كمـا الرّأسمـاليّـة رأسـماليّـات والدّيـموقـراطيّـة ديـمـوقـراطـيّـات والعـقـلانـيّـة عـقـلانـيّـات... إلخ. وكـلّ محاولـةٍ إلى إدخـال المتـعـدِّد في أقـنـوم الواحـد، إدخـالًا قـسـريًّـا، هـي مـن قـبيـل أفـعـال التّـعسُّـف التي تـقـود النّـظـرَ إلى مـوضوعٍ مـركَّـبٍ إلى التّـبسيـطـيّـة في الإدراك وإلى التّـنـميـطِ المُـخِـلّ بـتـاريـخـيّـة الظّـاهـرة!

إنّ انـتـقـال الحـداثـة مـن أيّ صُـقْـعٍ في الأرض إلى آخـر إذْ تَحْـمِـل فيـه تـلك الحـداثـة سمـاتَ مـوطـنـها الذي تَـنَـشَّـأت فيـه، تـكـتـسـب في المـوطـن الجـديـد - بالتّـبِـعـة - سـمـاته الاجـتماعـيّـةَ الأنـثـروپـولوجيّـةَ والثّـقافـيّـةَ الخاصّـة وتـتـلـوّن بـها، الأمـر الذي يسمح لمـوطنها الجـديـد بأن يسـتـدخـل خصـوصيّـاتـه في تكـويـن تلك الحـداثـة التي يسـتـنـبـتُـها، ابـتـداءً، ثـمّ يـتـوسّـع في إنـتـاجـها. ولـعـلّ هـذا مـا يـُوفِّـر للمـوطـن الجـديد إمـكانـًا لتـمـيـيـز مـا هـو عـامّ وكـونـيّ في الحـداثـة الوافـدة إليـه، عـمّـا هـو خـاصّ ومـحـلـيّ فيها غـيـرُ قـابـلٍ للتّـعـمـيـم. نـتـأدّى مـن هـذا إلى القـول إنّ الحـداثـة صـارت إلى حـداثـات حيـنـما أصابت أمـمٌ نجـاحًـا مـؤكَّـدًا في تحـريـر الحـداثـة مـن أوحـديّـتـها النّـمـوذجيّـة (الغـربـيّـة) وتـمـكيـنـها مـن الصّـيرورة، بالتّـالـي، إمـكـانـًا كـونـيًّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن