غياب المشاريع التكاملية الكبرى: فرص ضائعة وزمن تنموي مهدور!

مهما تعاظم الحديث عن التكامل الاقتصادي العربي، فإنّه يظلّ خطابًا بلا سند ما دامت مقوّماته الأساسية غائبة. فقد سبق لنا أن تناولنا في مقالاتٍ سابقةٍ بعض هذه المعيقات، وفي مقدّمتها غياب الإرادة السياسية وضعف الإيمان بالمصير المشترك، إلى جانب اهتزاز الثقة المتبادلة وتقادم الإطار المؤسّساتي الجامع والنصوص التشريعية المُنظّمة. يضاف إلى ذلك هشاشة البنيات التحتية للربط وضعف المشاريع الاقتصادية الكبرى المشتركة بين الدول العربية، وهو الجانب الذي أودّ التوقف عنده.

غياب المشاريع التكاملية الكبرى: فرص ضائعة وزمن تنموي مهدور!

إنّ الحاجة إلى مشاريع تكاملية مشتركة تفرض نفسها بإلحاحٍ على معظم الدول العربية، خاصّةً في مجالات الطاقة والتصنيع والفلاحة والتكنولوجيا. غير أنّ المفارقة هنا تكمن في أنّ هذه الحاجة لم تُترجَم إلى مشاريع عربية جامعة، بل دفعت عددًا من الدول إلى البحث عن بدائل إقليمية خارج النّسق العربي.

فالمغرب، مثلًا، وبعد وقف الجزائر لإمدادات الغاز نحو أراضيه، اختار التوجّه جنوبًا نحو نيجيريا لإطلاق مشروع ضخم لمدّ أنبوب غاز يمتدّ على أكثر من 5600 كيلومتر. والمفارقة الدالّة أنّ المملكة تجد ضالّتها على بعد آلاف الكيلومترات بينما حاجتها ماثلة على أمتارٍ قليلةٍ من حدودها الشرقية. إنّها خسارة مزدوجة للاقتصاد والتنمية، تصوغها القطيعة السياسية بين بلدَيْن شقيقَيْن كان يمكن أن يشكّلا محورًا طاقيًا قاريًا.

والمفارقات لا تقف عند هذا الحدّ؛ فالجزائر بدورها تسعى إلى مشروعٍ مماثلٍ مع نيجيريا، على الرَّغم من أنّ الغاز النيجيري قد يتحوّل إلى منافسٍ مباشرٍ لصادراتها نحو أوروبا، ليكون الرابح الأكبر هو نيجيريا التي استفادت من صراع الجارَيْن المغاربيَيْن.

المشاريع الكبرى للربط والأنابيب ستُعزّز الأمن الطاقي للدول العربية وتُحرّر قرارها السياسي

وبالمنطق ذاته، نجد مصر والأردن وقد ارتهنا للغاز الإسرائيلي، وهو خيارٌ أثار الكثير من الجدل حول تبعيّةٍ اقتصاديةٍ متناميةٍ لإسرائيل، تتضاعف خطورتها إذا ما أضفنا الارتهان المائي للأردن بموجب الاتفاقيات مع إسرائيل، ولمصر أمام إثيوبيا - الحليف الاستراتيجي لتل أبيب - التي باتت تتحكّم في مفاتيح النيل بعد استكمال بناء سدّ النهضة. والحال أنّ هذه الدول كان بإمكانها أن تُلبّي احتياجاتها الطاقيّة عبر مشاريع عربية كبرى للربط والأنابيب من الخليج إلى المشرق أو من الجزائر وليبيا شرقًا إلى مصر وبلاد الشام، وهو ما كان سيُعزّز أمنها الطاقي ويحرّر قرارها السياسي من قيود الارتهان.

في المقابل، يبرز نموذجٌ آخر من السياسات التكامليّة خارج الفضاء العربي من خلال المساعي الرامية للانضمام إلى تكتّلاتٍ قائمةٍ كسعي بعض الدول للانضمام إلى مجموعة "بريكس" (BRICS) أو "سيداو" (CEDAW) أو الانخراط في مبادرة "طريق الحرير"، أو الشروع في تنزيل مبادراتٍ خاصةٍ كتلك التي تريد المملكة المغربية من خلالها تحويل الأقاليم الجنوبية إلى منصّة مينائية ولوجستيّة لدول الساحل والصحراء، وتمكينها من الولوج إلى أهم الممرّات البحرية الأطلسية.

يندرج هذا التوجّه الاستراتيجي ضمن "المبادرة الأطلسية" التي أطلقتها الرباط لتعزيز التعاون بين الدول الأفريقية المُطلّة على الأطلسي. غير أنّ هذه المبادرة أثارت مخاوف نواكشوط التي تجد نفسها مضطرّةً للتوازن بين الجارَيْن المتنازعَيْن. كما أثارت قلق الجزائر التي تنظر إلى الحضور الاقتصادي المغربي المُتنامي في غرب أفريقيا - باستثماراتٍ تتجاوز 12 مليار دولار في قطاعاتٍ استراتيجيةٍ كالاتصالات والطاقة والمصارف والبنى التحتية - كخطوةٍ لإحكام الطوْق عليها بعد أن أغلقت بدورها الحدود البرّية والجوية، وعلّقت المبادلات التجارية وأوقفت إمدادات الغاز. وهي سياسات كلّفت المنطقة المغاربية خسائر فادحة اقتصاديًا وتنمويًا، ودفعت بها أكثر نحو الارتهان للقوى الإقليمية والدولية.

بغياب المشاريع المشتركة يظلّ القرار السياسي والاقتصادي العربي مُرتهنًا لخيارات غير عربية

إنّ غياب المشاريع الاقتصادية العربية الكبرى يجعل من التكامل الاقتصادي العربي مجرّد شعار نظريّ يفتقد لأي إمكانيّة للتنزيل العملي. وهو ما يكرّس انطباعًا مؤسفًا عن غياب الإرادة الحقيقية لدى الدول العربية في إعادة بناء منظومتها المشتركة كتكتّلٍ اقتصاديّ إقليميّ قادر على فرض نفسه. وما يزيد من وقع الحسرة أنّ العالم العربي يمتلك كلّ المقوّمات: ثروات طبيعية هائلة، موارد بشرية مؤهّلة، وموقع جيوستراتيجي يتحكّم في أهم الممرّات التجارية وقريب من كبريات الأسواق العالمية. لكن، وبغياب المشاريع المشتركة، تظلّ هذه الفرص التنموية مهدورةً، ويظلّ القرار السياسي والاقتصادي العربي مُرتهنًا لخيارات غير عربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن