ثقافة

في ذكرى الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود

على منوال موسى بن ميمون في تاريخ الفكر اليهودي، وابن رشد في تاريخ الفكر العربي، وإيمانويل كانط في تاريخ الفكر الأوروبي، الذين صاغوا منطق العلاقة بين العقل والإيمان في مراحل التحوّل الكبرى، يقف د. زكي نجيب محمود، الذي حلّت أمس ذكرى رحيله الثلاثين (8 سبتمبر 1993م)، شامخًا على قمّة الموجة التوفيقية / الثالثة في تيّار الفكر العربي، تجمع بين الدعوة إلى النهوض كما أرادت الموجة الأولى / الإصلاحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والدعوة إلى الانفتاح على الآخر كما أرادت الموجة الثانية / العلموية في النصف الأول من القرن العشرين.

في ذكرى الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود

يكاد الرجل يختزل تاريخ الثقافة العربية الحديث في شخصه وتحوّلاته الفكرية، فقد عاش مرحلة تكوين استمرّت حتى تخرّج من مدرسة المعلمين العليا عام 1930م، كان خلالها متديّنًا أقرب إلى التصوّف، ربما تناغمًا مع البيئة الريفية الوادعة التي نشأ فيها، حيث ولد بقرية ميت الخولى عبدالله، من أعمال مدينة المنصورة محافظة الدقهلية آنذاك ودمياط الآن.

إعتزّ كثيرًا بوصف العقاد له: "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"

لكن، منذ سفره إلى لندن 1944، ثمّ عودته منها عام 1947 حاملًا درجة الدكتوراه فى (الجبر الذاتي)، وحتى مطلع الستينيات، دخل في مرحلة جديدة يمكن وصفها بالتغريبية، دافع خلالها عن مذهب الوضعية المنطقية، وأصدر مؤلفات من قبيل: "المنطق الوضعي"، "نحو فلسفة علمية"، "خرافة الميتافيزيقيا"، دعا فيها إلى تخليص الثقافة العربية من هيمنة الميتافيزيقيا كطريق ارتآه ضروريًا للعقلانية والتقدّم. غير أنه كان يُهاجَم كثيرًا وبضراوة من التيارات المحافظة تحت مظنّة إنكاره للدّين باعتباره مجرد "ميتافيزيقيًا"، وإلى درجة اضطرّته إلى تغيير عنوان كتابه "خرافة الميتافيزيقيا" إلى "موقف من الميتافيزيقيا" وأشعرته بالغربة عن محيط ثقافي لم يمنحه القدر الكافي من التقدير، خصوصًا وهو الرجل المتنسك فى محراب فكره. ولذا فقد اعتزّ كثيرًا بوصف العقاد له: "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، ليس فقط لأنه وصفًا مستحقًا، حيث كان قادرًا على نقل الأفكار الفلسفية بلغة أدبية سهلة، بل لأنها شهادة تمكين صادرة عن شخصية لها حضور العقاد الطاغي.

"عربي بين ثقافتين" رسم فيه الملامح النهائية لإنسان عربي يجمع بين ثقافة العصر العلمية والوجدان القومي الخالص

بسفره إلى جامعة الكويت عام 1968م، وعمله فيها ثلاث سنوات، واتصاله المباشر بمكتبتها الزاخرة، أعاد اكتشاف الثقافة العربية، وتحوّل عن الوضعية المنطقية إلى النزعة التوفيقية. نعترف أنّ كثرًا قد سبقوه على طريقها، غير أنّ دعوتهم إليها ظلّت متناثرة، رهينة تعبير أدبي ما على منوال نجيب محفوظ، أو خبيئة نزعة فنية أقرب إلى الحدس الصوفي منها إلى التحليل العقلي على منوال "التعادلية" لدى توفيق الحكيم، ولم تلتزم بمنهج معرفي يتوسّل أدوات التحليل العقلي كحالها مع زكي نجيب محمود في مشروع (الأصالة والمعاصرة) الذي بدأ بكتاب "تجديد الفكر العربي" 1970م، الذي كان بمثابة المانيفستو التوفيقي، مرورًا بعشرين مؤلفًا، قبل أن ينتهي المشروع حصريًا بسيرته الذاتية "حصاد السنين" 1993م، وإن اكتمل موضوعيًا بكتاب "عربي بين ثقافتين" 1992م، الذي رسم فيه الملامح النهائية لإنسان عربي يجمع بين ثقافة العصر العلمية، والوجدان القومي الخالص.

ميزة هذا المشروع / الكتاب، قياسًا على غيره من مشروعات التجديد لدى المفكّرين العرب الكبار، أنه أقام علاقة مباشرة بين الذات العربية الراهنة والثقافة المعاصرة، وحدّد بوضوح دوائر الأصالة ومساحات المعاصرة، مؤسسًا إستراتيجيته التوفيقية على قاعدة الصدق الذاتي لدى المكوّنات الأربعة الأساسية للثقافة وهي: الديني / الاعتقادي، الأدبي / الفني، الفكري / القيمي، وأخيرًا العلمي / التجريبي، حيث تختلف نسب الأصالة والمعاصرة فيما بينها على مؤشر يمتدّ من صفر إلى واحد صحيح، يتحرّك بين الكونية والخصوصية.

يبدأ المؤشر حركته من الدّين كمكوّن اعتقادي، وسيلة إدراكه هي الكتاب المقدّس و"الوجدان"، يتمتع بالحد الأقصى للخصوصية والأدنى للكونية، فهو منبع أصالتنا. كما يبلغ المؤشر غايته عند العلم الطبيعي، ووسيلة إدراكه هي "العقل" ومن ثم يجسد النسق الأكثر كونية، الذي يتعيّن الاندراج فيه كليةً تحقيقًا للمعاصرة. وفيما بينهما ثمة الفكر الذي يلي العلم في درجة المعاصرة، إذ يحمل مفاهيم وأفكارًا "كونية" تختلط بقيم ومبادئ "اجتماعية". ثم الفن الذي يلي الدّين في درجة الأصالة، كونه ينبعث من ذائقة ثقافية تنغرس في جماعة قومية حتى وإن تشاركت في الخبرة الجمالية مع غيرها بقدر ما تنتمي للمشترك الإنساني. فليرحم الله ذلك الفيلسوف الكبير رحمة واسعة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن